فبلا أدنى شك أنَّ مثل هذا التصريح لم يكن شيئاً مألوفاً حتَّى للعربيِّ في ذلك
الوقت. فبالنسبة له كانت الذرَّة هي أصغر شيءٍ موجود. وهذا حقاًّ دليلٌ على
أنَّ القرآن لم يعف عليه الزَّمن.
مثالٌ آخرٌ على ما يمكن أن يتوقَّع المرء إيجاده في "كتابٍ قديم" يتعرَّض
لموضوع الصحة أو الطب, أنَّ ما فيه من المعلومات ستكون قديمةً وقد عفا
عليها الزَّمن. مصادر تاريخيَّةٌ عديدةٌ تقول بأنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله
وسلَّم) أعطى نصائح بخصوص الصحة والنظافة, لكنَّ مُعظم هذه النصائح (الأحاديث
الشريفة) لم تَرِد في القرآن. وللوهلة الأولى يبدو هذا لغير المسلمين
إهمالاً لا يُمكن التهاون فيه. فهم لا يستطيعون أن يفهموا لماذا لم يُوحِ الله
(سبحانه وتعالى) في القرآن مثل هذه المعلومات المفيدة. بعض المسلمين
يحاولون توضيح غياب هذه المعلومات من القرآن بالحجَّة التالية: "على
الرغم من أنَّ نصائح رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كانت مناسبةً للوقت
الَّذي عاش فيه, فإنَّ الله سبحانه وتعالى كان يعلم في حكمته اللامحدودة أنَّه
سيحدث في الأزمان اللاحقة تطوُّراتٌ علميَّةٌ وطبيَّةٌ قد تجعل إرشادات النبيِّ
(صلَّى
الله عليه وآله وسلَّم) تبدو وكأنَّها قد عفا عليها الزَّمن. فعندما تظهر
الاكتشافات لاحقاً, من الممكن أن يقول النَّاس بأنَّها تتعارض مع ما قاله
النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). لذلك, وحيث إنَّ الله تعالى لم يكن أبداً
لُيعطي لغير المسلمين أيَّ فرصةٍ ليدَّعوا بأنَّ القرآن يناقض نفسه، أو يناقض
أقوال النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم), فقد أوحى في القرآن المعلومات
والأمثلة الَّتي تستطيع أن تصمد أمام كلِّ اختبارات الزَّمن."
على أيَّة حال, عندما يتفحَّص المرء الواقع الحقيقيَّ للقرآن الكريم، وبخصوص
وجوده كوحيٍ من الله تعالى, فإنَّ المسألة كلَّها سرعان ما تظهر في منظورها
المناسب. والخطأ في مثل حُجَّة غير المسلمين تلك يصبح واضحاً ومفهوماً. فلا
بُدَّ أن يكون مفهوماً بأنَّ القرآن وحيٌ من الله تعالى, وبما أنَّه كذلك فإنَّ
كلَّ
المعلومات الواردة فيه ذات أصلٍ إلهيّ، وأنَّ الله تعالى قد أوحى به من ذاته
سبحانه وتعالى، فهو كلامه سبحانه وتعالى الموجود من قبْل الخليقة, وهكذا
فلا يمكن لشيءٍ فيه أن يُضاف أو يُحذف أو يُعدَّل. فالقرآن في جوهره كان
موجوداً وكاملاً من قبْل خلق النبيِّ مُحمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم), لذلك
لم
يكن من الممكن أن يحوي أيّاً من كلمات أو نصائح النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله
وسلَّم) الخاصَّة. وتضمين مثل هذه المعلومات كانت ستناقض الهدف الَّذي من
أجله نزل القرآن, وتعرِّض مرجعيَّته للشُبْهة، وتجعله غير موثوقٍ به كوحيٍ من
الله تعالى.
وبناءً على ذلك لم يكن هناك "وصفاتٌ علاجيَّةٌ بيتيَّةٌ" في القرآن يمكن أن يُدَّعى
بأنَّها تقادمت مع مرور الزَّمن؛ ولم يتضمَّن وجهة نظر أيٍّ كان فيما يتعلَّق
بالمنفعة الصحيَّة, أو أيِّ الطعام هو الأفضل للأكل, أو ما هو العلاج لهذا أو
ذاك المرض. في الواقع, لقد ذكر القرآن شيئاً واحداً فقط له علاقة بالعلاج
الطبيّ, وهذا لا يعارضه أحد, حيث يرشدنا الله تعالى أنَّ في العسل شفاءً
للنَّاس، ولا أظنُّ أنَّ هناك من يمكنه أن يعارض ذلك!
إذا افترض أحد النَّاس بأنَّ القرآن الكريم من نتاج العقل البشري, فإنَّه
سيتوقَّع أنَّه سيعكس ما كان يجول في عقل ذاك الإنسان الَّذي ألَّفه. وهناك حقاًّ
بعض الموسوعات والكتب المختلفة الَّتي تدَّعي بأنَّ القرآن الكريم كان من
نتاج هَلْوَساتٍ كان النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يمرُّ بها. فإذا كانت
هذه
الادِّعاءات صحيحة -أي إذا كان القرآن الكريم فعلاً قد أُلِّفَ نتيجةً لبعض
المشكلات النفسيَّة عند النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)- فإنَّ الدَّليل على
ذلك يجب أن يكون ظاهراً جليّاً فيه. فهل لمِثْل هذا الدَّليل وجود؟ ولكي نحدِّد
وجود هذا الدَّليل من عدمه, فإنَّه يجب علينا أوَّلاً أن نتعرَّف على الأمور الَّتي
كانت تدور في ذهنه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في ذلك الوقت, وعندئذٍ يتمُّ
البحث عن هذه الأفكار وانعكاساتها في القرآن الكريم.
من المعروف أنَّ حياة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كانت صعبةً جدّاً.
فكلُّ
بناته (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) توفين قبله عدا واحدة, وكانت لديه
(عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) لسنواتٍ عديدة زوجٌ حبيبةٌ إلى قلبه، وكانت عنده
من الأهميَّة بمكان (رضي الله عن أُمِّنا خديجة), وقد فُجِعَ بموتها في مرحلةٍ
حرجةٍ
من مراحل حياته. ويقيناً أنَّها كانت امرأةً حقّاً، وبكلِّ ما في الكلمة من
معنى. لأنَّه (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) -وعندما جاءه الوحي لأوِّل مرَّة- ذهب
إليها مسرعاً يرتعد خوفاً. من المؤكَّد أنَّنا -وحتَّى في أَيَّامنا هذه- لا يمكن
أن نجد ببساطةٍ بين العرب من يقول: "لقد كنت خائفاً جدّاً لدرجة أنِّي ركضت
هارباً إلى زوجي"، لأنَّ العرب ببساطةٍ ليسوا كذلك. ومع ذلك فإنَّ النبيَّ (صلَّى
الله عليه وآله وسلَّم) كان يشعر براحة كافيةٍ مع زوجه لتكون لديه القُدْرة
على فعل ذلك. هكذا كانت زوجه (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) امرأةً مؤثِّرةً
وقويَّة (رضي الله عنها). ومع أنَّ هذه الأمثلة هي بعض ما كان في ذهن محمَّدٍ
(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من أمور، إلَّا أنَّها كافية بقوَّتها لتُثبت هذه
المسألة. فعلى الرغم من أنَّ هذه الأمور كان يجب أن تسود كغيرها، أو على
الأقلِّ أن تُذكر في القرآن الكريم، إلَّا أنَّه لم يُذكر أيٌّ منها –فلم تُذكر
وفاة أولاده، ولا وفاة زوجه ورفيقته الحبيبة، ولا وصف خوفه من الوحي؛ ذلك
الخوف الَّذي تقاسمه مع زوجه بتلك الطريقة الغاية في الجمال؛ لم يُذكر شيئٌ
من ذلك. مع أنَّ هذه الأمور لا بُدَّ وأن تكون قد جرحته، وأزعجته، وسبَّبت له
الألم والحزن خلال مراحل حياته النفسيَّة (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام).
إنَّ فهم القرآن الكريم بطريقةٍ علميَّةٍ حقيقيَّةٍ ممكنٌ للغاية، وذلك لأنَّ
القرآن
الكريم يقدِّم شيئاً لا تقدِّمه الكتب السماويَّة الأخرى خاصَّة أو الأديان الأخرى
عامَّة. إنَّ في القرآن ما يطلبه العلماء. هناك الكثير في هذه الأيَّام ممَّن
لديهم نظريَّاتٍ عن طريقة عمل الكون، إنَّهم في كلِّ مكان من حولنا, لكنَّ مجتمع
أهل العلم لا يكلِّف نفسه حتَّى بالاستماع إليهم. وذلك لأنَّ المجتمع العلميَّ -
وخلال القرن الماضي- وضع شرطاً لقبول مناقشة النظريَّات الجديدة، وهو ما
يُسمَّى "اختبار الزَّيف(أو الخطأ)". فهم يقولون: "إن كانت لديك نظريَّة، فلا
تزعجنا بها حتى تحضر لنا مع هذه النظريَّة طريقةً ما تُثبت إن كنت على صوابٍ
أم على خطأ."
مثل هذا الاختبار كان بالتأكيد هو السَّبب الَّذي جعل العلماء يستمعون
لآينشتاين في مطلع هذا القرن. لقد جاء بنظريَّةٍ جديدةٍ، وقال: "أنا أعتقد
بأنَّ الكون يعمل بهذه الطَّريقة, وها هي ثلاث طُرُقٍ لتُثبت إنْ كنت مخطئاً!"
بعدئذٍ وضع العلماء نظريَّته تحت الاختبار لمدَّة ستِّ سنوات, فنَجَحَتْ في اجتياز
الاختبارات، وبالطُّرق الثَّلاث كلِّها. طبعاً, هذا لم يثبت أنَّه كان عظيماً, بل
أثبت فقط أنَّه يستحقُّ أنْ يُستمع له, لأنَّه قال: "هذه هي نظريَّتي, وإنْ أردتم
إثبات أنِّي مخطئٌ فافعلوا هذا أو جرِّبوا ذاك." وهذا هو بالضَّبط ما يقدِّمه
القرآن الكريم -اختباراتٌ للزَّيف. بعض هذه الاختبارات أصبحت مفروغاً منها
حيث إنَّها أثبتت صحَّتها, والبعض الآخر ما زال قائماً إلى يومنا هذا. إنَّ
القرآن يشير أساساً إلى أنَّه إذا لم يكن هذا الكتاب هو ما يدَّعيه, فما
عليكم إلَّا أن تفعلوا هذا أو ذاك لتثبتوا أنَّه مُزيَّف. وخلال ألفٍ وأربعمائة
سنة مرَّت لم يستطع أحد بالطبع أن يفعل هذا أو ذاك فيثبت ذلك, لذلك ما
زال يعتبر صحيحاً وأصيلاً.
أنا أقترح عليكم أنَّه إذا أراد أحدكم أن يدخل في مناظرةٍ حول الإسلام مع
أحد غير المسلمين الَّذين يدَّعون أنَّ لديهم الحقيقة وأنَّكم على الباطل, أن
يضع بدايةً كلَّ الحُجَجِ الأخرى جانباً وأن يسأله ما يلي: "هل يوجد أيُّ اختبارٍ
للزَّيف في دينك؟ هل يوجد في دينك ما يمكن أن يُبيِّن أنَّكم على خطأ إن
استطعت أنا أن أُثبت ذلك؛ هل يوجد أيُّ شيء؟! حسناً, أستطيع أن أعدك منذ
الآن أنَّه لن يكون لدى أيٍّ منهم أيُّ اختبار أو إثبات؛ لا شيء ! وذلك لأنَّهم
ليس لديهم أدنى فكرةٍ أنَّه يتوجَّب عليهم حين عرضهم ما يؤمنون به على النَّاس
أن يقدِّموا لهم الفرصة لإثبات أنهَّم مخطئون إن استطاعوا. ومع هذا, فإنَّ
الإسلام يقدِّم لهم ذلك. ومثالٌ رائعٌ على كيفيَّة تزويد القرآن الكريم الإنسان
بفرصةٍ ليتثبَّت من أصالته، وأن (يثبت زيفه) جاء في السُّورة الرابعة. وأقول
بصدق أنِّي كنت مندهشاً حين اكتشفت هذا التحدِّي لأوَّل مرَّة. يقول الله تعالى:
" أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا
كَثِيرًا "
(النساء 82)