عبد الله بن عمر:
المتعبد المتهجد المتتبع للأثر المتشدِّد، كادت أن تكون له الخلافة فصانه الله وحفظه من الفتن، قَالَ نَافِعٌ: دخل ابن عمر الكعبة فسمعته يقول وهو ساجد: قد تعلم ما يمنعني من مزاحمةِ قريش على هذه الدنيا إلا خوفك.
وعن سعيد بن جبير قَالَ: رَأَيْتُ ابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد وغيرهم كانوا يرون أنه ليس أحد منهم على الحال التي فارق عليها محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ غير ابن عمر.
وكان لعبد الله بن عمر مِهْرَاسٌ فيه ماء، فيصلى ما قُدِّر له، ثم يصير إلى فراشه فيغفى إغفاء الطَّائر، ثم يقوم فيتوضأ، ثم يصلي، ثم يرجع إلى فراشه، فيغفى إغفاء الطَّائر، ثم يثب فيتوضأ، ثم يصلي، فيفعل ذلك في الليلة أربع مرات، أو خمسًا.
وعن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه أنه تلا: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا من كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [سورة النساء: 41] فجعل ابن عمر يبكي حتى لصقت لحيته وجيبه من دموعه، فأراد رجل أن يقول لأبي: أقصر فقد آذيت الشيخ.
وعن نافع، كان ابن عمر إذا قرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الحديد: 16] بكى حتى يغلبه البكاء.
وقيل لنافع: ما كان يصنع ابن عمر في منزله، قَالَ: لا تُطِيقونه، الوضوء لكلِّ صلاة، والمصحف فيما بينهما.
عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قَالَ: تَلَوْتُ هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [سورة آل عمران 3/92] فذكرت ما أعطاني الله - تعالى -، فما وجدت شيئًا أحبَّ إلي من جاريتي رضية، فقلت: هي حرة لوجه الله - عز وجل -؛ فلولا أني لا أعود في شيء جعلته لله - عز وجل - لنكحتها؛ فأنكحها نافع فهي أم ولده.
عن نافع قَالَ: كَانَ ابن عمر إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قرَّبه لربه - عز وجل -. قَالَ نافع: وكان رقيقه قد عرفوا ذلك منه، فربما شمر أحدهم فيلزم المسجد؛ فإذا رآه ابن عمر رضي الله - تعالى -عنه على تلك الحالةِ الحسنة أعتقه فيقول: له أصحابه يا أبا عبد الرحمن! والله ما بهم إلا أن يخدعوك، فيقول ابن عمر: فمن خدعنا بالله - عز وجل - تخدَّعنا له، قَالَ نافع: فلقد رأيتنا ذات عشية وراح ابن عمر على نجيب له قد أخذه بمالٍ عظيم؛ فلما أعجبه سيره أناخه مكانه، ثم نزل عنه، فقال: يا نافع انزعوا زِمامه ورحله، وجللوه وأشعروه، وأدخلوه في البدن.
وعن ابن سيرين أن رجلًا قَالَ: لابن عمر أعمل لك جَوَارِش، قَالَ: وما هو؟ قَالَ: شيء إذا كَظَّك الطَّعام فأصبت منه سهل، فقال: ما شبعت منذ أربعة أشهر، وما ذاك أن لا أكون له واجدا، ولكن عهدت قومًا يشبعون مرة، ويجوعون مرة.
قَالَ الذَّهبي: وأين مثل ابن عمر في دينه، وورعه، وعلمه، وتألهه، وخوفه، من رجل تعرض عليه الخلافة فيأباها، والقضاء من مثل عثمان فيرده، ونيابة الشّام لعلي فيهرب منه، فالله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب.
عبد الله بن عباس:
بدر الأحبار، والبحر الزَّخار، دعوة النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالفقه والتفسير.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ.
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ الْخَلَاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا، قَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ فَأُخْبِرَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ.
وعن أبي وائلٍ قَالَ: خطبنا ابن عباس وهو أمير على الموسم، فافتتح سورة النُّور، فجعل يقرأ ويفسر، فجعلت أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثل هذا، لو سمعته فارس والرُّوم والترك؛ لأسلمت.
عن ابن أبي مُليكة قَالَ: صَحِبت ابن عباس من مكة إلى المدينة، فكان إذا نزل قام شطر الليل، فسأله أيوب السَّخْتِياني كيف كانت قراءته؟ قَالَ قَرَأ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [سورة ق: 19] فجعل يرتل، ويكثر في ذلك النَّشيج.
عن ابن أبي مليكة قَالَ: صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة، فكان يصلي ركعتين؛ فإذا نزل قام شطر الليل ويرتل القُران حرفًا حرفًا، ويكثر في ذلك من النَّشيج والنَّحيب.
عن أبي رجاء قَالَ: رأيت ابن عباس وأسفل من عينيه مثل الشِّراك البالي من البكاء.
أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
ابن عَمِّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وأخوه من الرَّضاعة، ولقد أحبه النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بعد طول عداء؛ وشهد له بالجنة، وقال: أرجو أن يكون خلفًا من حمزة، وقيل: إنه لم يرفع رأسه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياءً منه منذ أسلم.
ولما احتضر أبو سفيان قَالَ: لا تبكوا علي فإني لم أتنطف بخطيئة منذ أسلمت.
وعن سعيد بن المسيب: أن أبا سفيان بن الحارث كان يصلي في الصَّيف نصف النهار حتى تكره الصَّلاة، ثم يصلي من الظهر إلى العصر.
عن سعيد بن عبيد الثقفي قَالَ: رَمَيْتُ أبا سفيان يوم الطّائف فأصبت عينه فأتى النبي فقال: هذه عيني أصيبت في سبيل الله، قَالَ: إن شئت دعوت فَرُدَّت عليك، وإن شئت فالجنة، قَالَ: الجنة.
عبد الله بن رواحة:
المتفكر عند نزول الآيات المتصبر عند تناول الرّايات، نعاه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوم قتل؛ وهو على منبره - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة.
لما أراد ابن رواحة الخروج إلى أرض مؤتة من الشّام؛ أتاه المسلمون يودعونه فبكى، فقالوا له: ما يبكيك؟! قَالَ: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة لكم، ولكني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)} [سورة مريم: 71] فقد علمت أني وارد النار، ولا أدري كيف الصُّدور بعد الورود.
وقيل تزوج رجل امرأة ابن رواحة، فقال لها: تدرين لم تزوجتك؟! لتخبريني عن صنيع عبد الله في بيته، فذكرت له شيئًا لا أحفظه غير أنها قالت: كان إذا أراد أن يخرج من بيته صلى ركعتين، وإذا دخل صلى ركعتين؛ لا يدع ذلك أبدًا.
وعن سليمان بن يسار أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَبْعَثُ ابن رواحة إلى خَيْبَر، فَيُخَرِّص بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَهُود، فَجَمَعُوا حُلِيَّا مِنْ نِسَائِهم، فقالوا: هَذَا لك وخَفِّفْ عَنّا، فقال: يا معشر يهود! والله إنكم لمن أبغض خَلْقِ الله إلي، وما ذاك بِحَامِلي على أن أَحِيف عليكم، والرِّشوة سُحت، فقالوا: بهذا قامت السَّماء والأرض.
وعن بكر بن عبد الله المزني قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ هذه الآية: "وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا" ذهب عبد الله بن رواحة إلى بيته فبكى، فجاءت امرأته فبكت، وجاءت الخادم فبكت، وجاء أهل البيت فجعلوا يبكون، فلما انقطعت عبرته قَالَ: يا أهلاه ما الذي أَبْكَاكُم؟! قالوا: لا ندري! ولكن رأيناك بكيت فبكينا، قَالَ: إِنَّه أنزلت على رسول الله آية، يُنبئني فيها ربي - عز وجل - أني وارد النّار، ولم ينبئني أني صادر عنها، فذلك الذي أبكاني.
وإن عبد الله بن رواحة أتى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب، فسَمِعه وهو يقول: اجلسوا فجلس مكانه خارج المسجد؛ حتى فرغ من خطبته، فبلغ ذلك النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: زَادَك الله حِرْصًا عَلَى طَواعِية الله ورسوله.
وإن عبد الله بن رواحة قَالَ حِينَ أَخَذَ الرّاية يومئذ:
أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلَنَّه
طَائِعَةً أَوْ لَتُكْرِهَنَّه
إِنْ أَجْلَبَ النَّاس وَشَدُّوا الرَّنَّه
مَا لِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّه
قَدْ طَالَمَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّه
هَلْ أَنْتِ إِلَّا نُطْفَةٌ فِي شَنَّه
قَالَ ابن إسحاق وقال أيضًا:
يَا نَفْسُ إِلَّا تُقْتَلِي تَمُوتِي
هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ لَقِيتِ
وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتِ
إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ
وَإِنْ تَأَخَّرْتِ فَقَدْ شَقِيتِ
يُريد جعفرًا وزيدًا - رضي الله عنهما -، ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قُتل.
وقبل أن ينزل أتاه ابن عمه بعظم من لحم، فقال: شُدَّ بهذا صلبك فإنك قد لاقيت من أيامك هذه ما قد لقيت، فأخذه من يده ثم انتهش منه نهشة، ثم سمع الحطمة في ناحية النَّاس، فقال: وأنت في الدنيا، ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه؛ فتقدم فقاتل حتى قتل رضي الله - تعالى -عنه.