القسم الثاني: جمعات لا توافق مناسبات معينة:
وهذه هي الأكثر، ويستطيع الخطيب أن يضع لها مخططًا يسير عليه، ويشتمل هذا المخطط على موضوعات عدة، وفي فنون مختلفة، ومن فوائد ذلك:
1ـ عدم حيرته في اختيار موضوع الخطبة، ولا سيما إذا ضاق الوقت عليه.
2ـ نضج الموضوعات التي يطرحها، إذ قد يمر عليه شهور وهو تدور في مخليته، وكلما حصل ما يفيده فيها من مطالعاته وقراءاته قيّده، أو استذكره.
3ـ سهولة بحثه عدة موضوعات، إذا كانت في فن واحد، وتوفير كثير من الوقت؛ فمثلاً إذا كان في خطته خمسة موضوعات في العقيدة، فإن جلسته لبحث واحد منها كجلسته لبحثها كلها؛ إذ إن مصادرها واحدة، ومظانها متقاربة.
4ـ التنويع على المصلين وعدم إملالهم.
ويمكن تقسيم الموضوعات إلى أقسام كثيرة، يختار في كل جمعة منها قسمًا للحديث عن موضوع من موضوعاته، ومن تلك الأقسام:
1ـ العقيدة وما يتعلق بها: وفيها موضوعات كثيرة، وكل موضوع منها يمكن استخراج عدد من الخطب فيه. ومن طالع المطولات من كتب العقيدة تبين له ذلك.
2ـ العبادات: وهي أيضًا باب واسع، وليس المعنى سرد الأحكام أو الإفتاء، ولكن المقصود تصحيح بعض الأخطاء فيها، وبيان فضائلها، والحث على المهجور منها.. وهكذا.
3ـ المعاملات: وفيها موضوعات كثيرة أيضًا، ولا سيما أن كثيرًا من صورها يتجدد.
4ـ نص من الكتاب أو السنة: فيختار آية أو سورة قصيرة أو حديثًا، ويذكر ما فيه من الفوائد مع ربطه بواقع الناس ومعاشهم، ولا يكون مجرد سرد للفوائد، وقد لاحظت أن لذلك أثرًا عظيمًا، حتى كأن الناس لأول مرة يستمعون إلى هذه السورة أو الآية، أو لأول مرة يسمعون هذا الحديث مع أنه مشهور، ولكن لأن فهمهم له كان خاطئًا، أو لأن الخطيب عرض لهم استنباطات جديدة، ومعان مفيدة لم يعلموها من قبل.
5ـ الأخلاق والآداب: وهي باب طويل عريض، وفيه كتب متخصصة كثيرة، متقدمة ومتأخرة.
6ـ من قصص القرآن والسنة: وهذا يمكن أن يلحق بفقرة [4] ويمكن أن ينفصل عنها، ويكون هنا خاصًا بالقصص، وما سبق ذكره في غير القصص.
7ـ السِّيَر والتراجم: يختار شخصية بارزة، ويلقي الضوء على صاحبها، وأسباب بروزه واشتهاره، والاستفادة من أقواله وسيرته، سواء كان من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أم من التابعين لهم بإحسان، أم من العلماء المشاهير قديمًا وحديثًا.
8ـ السيرة النبوية ومعارك الإسلام: يختار حديثًا أو معركة يتحدث عنها أو عن جانب منها، ويستخرج من ذلك الدروس والعبر.
9ـ موضوعات فكرية: ويذكر فيه المستجدات من الأفكار والمصطلحات والأحداث وموقف الشرع منها: كالديمقراطية، والعلمانية والحداثة، والحضارة الغربية وموقف المسلم منها.
10ـ الفتن والملاحم وأشراط الساعة: وكل فتنة أو ملحمة أو علامة من علامات الساعة الكبرى صالحة لأن تكون خطبة مستقلة، بل ربما أكثر من خطبة، لغزارة ما فيها من نصوص ومعلومات شرعية.
11ـ القيامة وأحوالها: وفيها من الموضوعات شيء كثير: الصراط، الميزان، البعث، الحساب، القنطرة، الحشر، الديوان..، كذلك: الجنة والنار، وفيهما موضوعات كثيرة: وصفهما، وصف أهلهما، أعمال أهلهما، الطريق الموصلة إليهما.
12ـ المواعظ والرقائق: وهو باب واسع أيضًا.
هذه بعض الموضوعات الكلية، ويمكن تقسيم كل موضوع منها إلى موضوعات جزئية في كل موضوع منها خطب كثيرة.
فالخطيب إذا عمل هذا التقسيم، ورتبه في خطة محكمة؛ بحيث يتعرض في كل جمعة لموضوع من هذه الموضوعات استفاد الفوائد التي ذكرتها آنفًا، إضافة إلى أنه يعلم الناس مجمل الشريعة، ويطلعهم على ما يحتاجون إليه في معادهم ومعاشهم، ويريح نفسه بحصر ذهنه عن الاختيار في موضوع واحد بدل التشتت في موضوعات كثيرة.
والملاحظ أن كثيرًا من الخطباء ممن لا يراعون مثل هذا التقسيم والتنظيم تنحصر خطبهم في موضوعات قليلة. ولربما أن بعضهم لم يتعرض لموضوع من هذه الموضوعات الكلية المهمة طيلة حياته الخطابية التي قد تمتد إلى عشرات السنوات، والسبب أن كثيرًا من الموضوعات قد تغيب عن باله إذا لم يكن لديه خطبة مكتوبة يسير عليها.
ومن الملاحظ أيضًا: أن كثيرًا من الخطباء يطرح موضوعات عامة، لا يتأثر بها المصلون، ولا يتفاعلون معها، ولربما كانت معلوماتهم فيها أثرى من معلومات الخطيب؛ فمثلاً في الحديث عن القيامة وأحوالها تجد أن كثيرًا من الخطباء يريدون استيعاب يوم القيامة بأحواله، وما يجري فيه في خطبة واحدة. وهذا غير ممكن، ويؤيد إلى التطويل والتشعب والمشقة على السامعين، كما يؤدي إلى العمومية والسطحية في الطرح، وضعف المعالجة كم هو مشاهد. فيوم القيامة كألف سنة مما تعدون كما هو نص القرآن؛ فكيف يريد الخطيب أن يختزل الحديث عن أحداث ألف سنة في نصف ساعة أو أقل؟! لكن لو قسم أحواله وأهواله، وخصّ كل حال منها بخطبة، لكان أعمق في طرحه ومعالجته، وأوسع في معلوماته، وأكثر فائدة وتأثيرًا في السامعين، وهكذا يقال في بقية الموضوعات.
تتابع الخطب في موضوع واحد:
يحلو لبعض الخطباء التركيز على موضوع من الموضوعات العامة، وعمل خطب كثيرة فيه تطرح تباعًا لفترة تطول أحيانًا وتمتد إلى سنوات، وتقصر أحيانًا بحسب ما عنده من مادة علمية في الموضوع الذي يطرحه.
وكثير ممن يختطُّ هذه الطريقة ينوه في آخر الخطبة بأنه سيكمل بقية الموضوع في الخطبة التالية، ويرى أصحاب هذا المسلك أنه مفيد من جوانب عدة:
1ـ تشويق السامعين إلى الجمعة القادمة.
2ـ ربط موضوعات الخطب بعضها ببعض.
3ـ أن طرح موضوع كلي بهذا التسلسل أنفع للناس فتكون الخطبة درسًا علميًا إضافة إلى كونها خطبة، وأعرف من الخطباء من حصر خطبه في التفسير فقط سنوات عدة قد تزيد على عشر سنوات، وغيره حصرها في السيرة النبوية وهكذا.
وبعضهم يأخذ جانبًا معينًا: كموضوع تربية الأولاد، أو أشراط الساعة، أو نحو ذلك، ويخطب فيه عشر خطب متتابعة أو أكثر، ثم ينتقل إلى موضوع آخر.
خطأ الجمود على مواضيع معينة:
والذي يظهر لي أن الجمود على فن من الفنون: كالتفسير، أو السيرة، أو على موضوع من الموضوعات؛ بحيث تكون الخطب فيه متوالية ليس حسنًا لما يلي:
1ـ أنه غير مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أقف فيما اطلعت عليه من سنته أنه كان يقول لأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ: سنكمل في الخطبة القادمة، أو موضوع الخطبة القادمة كذا، أو كان يذكر موضوعات متوالية في فن واحد، بل المحفوظ من هديه صلى الله عليه وسلم أنه يذكر ما يحتاج الناس إليه، وما يصلح شؤونهم، وهذا يكون متنوعًا في الغالب، لأن حاجات الناس مختلفة باختلاف أفهامهم واهتماماتهم وأعمالهم، قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: 'وكان يعلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام وشرائعه، ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض لهم أمر، وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته، فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة أمرهم بالصدقة وحضهم عليها'.
وقد يُعْتَرَضُ على هذا بأن أساليب الخطبة ووسائلها، والطريقة التي يختارها الخطيب اجتهادية، وليست توقيفية حتى يشترط أن يكون كل شيء فيها مأثورًا، وهذا محتمل، ولا سيما أن الفقهاء ـ فيما أعلم ـ لم يشترطوا تجنب ذلك في الخطبة لما ذكروا أركان وشروط الجمعة والخطبة.
وقد يجاب عن هذا الاعتراض بأن دواعيه موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، والقاعدة أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ترك شيئًا مع توافر دواعي العمل به عُلم أنه قصد تركه، ولعل الأمر واسع في هذه المسألة، ولها حظ كبير من الاجتهاد والنظر.
2ـ أنه قد يؤدي إلى عكس ما أراده الخطيب من التشويق؛ لأنهم عرفوا الموضوع الذي سيخطب فيه سلفًا، والإنسان بطبعه يميل إلى اكتشاف المجهول، ويحب المفاجأة في مثل هذا الأمر.
3ـ أن هذه الطريقة تقيد الخطيب، وتجعله محصورًا في فن واحد على حساب فنون أخرى يحتاج الناس إليها.
4ـ أن ما يستجد من أحداث يُربك خطة هذا النوع من الخطباء، فإما أن يخطبوا عما استجد، ويقطعوا سلسلتهم المتصلة في موضوع واحد، وإما أن يُهملوا ما يحدث، وهذا غير مقبول عند السامعين.
5ـ أن من المصلين من لم يحضر الخطبة الماضية، وقد يكون فَهْمُ الخطبة الحاضرة مبنيًا على حضور الماضية، فيقل انتفاع هؤلاء بالخطبة.
6ـ أن الخطيب قد يعرض له عارض من سفر أو مرض أو نحوه، فلا يستطيع الخطابة وإكمال الموضوع الذي ابتدأه فيكون الموضوع مبتورًا.
لهذه الأسباب وغيرها أرى أن تلك الطريقة ليست حسنة، خاصة في المساجد العامة التي في المدن، لكن لو كان المسجد خاصًا في مزرعة مثلاً أو قرية لا يحضر فيه غير أهلها؛ فإن كثيرًا من الملاحظات المذكورة آنفًا قد ترتفع. ومع ذلك فلا أجد ميلاً لتلك الطريقة؛ لأن الخطبة ليست درسًا، وبإمكان الخطيب أن يضع درسًا في مسجده، وتكون خطبه فيما يحتاجه الناس في معاشهم ومعادهم.
وما من موضع يرى الخطيب أنه طويل ويرد تغطيته إلا ويستطيع تجزئته بطريقة أو أخرى؛ بحيث لا يحتاج إلى جعله موضوعات متتابعة.
وبكل حال فإن حرص الخطيب، وجدّه في اختيار موضوعات خطبه، واستفادته من خطبه، واستفادته من الخطباء الآخرين سيعينه في هذا المجال كثيرًا، كما أن اطلاع الخطيب، وغزارة علمه، واجتهاده في تحصيل العلم وطلبه، ومعرفته بأحوال الناس، وتلمس حاجاتهم، وقربه منهم، يجعله قريبًا من قلوبهم، عارفًا بهمومهم، قادرًا على معالجة مشاكلهم، في كل أسبوع يصعد درجات المنبر، ويخطب فيهم وهم له منصتون.
وإذا كان الخطيب كذلك فإن المصلين سيشتاقون إلى الجمعة، وينتظرون خطيبهم برغبة كبيرة، ويفرحون بإطلالته عليهم، مما يجعل الخطيب قريبًا من مستمعيه، وهذا حقيق بأن يجعل الخطبة تؤتي ثمارها، وتظهر فائدتها التي شرعت من أجلها.