الدفاع عن حرّاس الفضيلة
محمد بن أحمد الفراج
الخطبة الأولى
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً). [الكهف: 5- 1].
أحمده سبحانه على إنعامه، وأشكره على إحسانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وأفعاله، (ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). [الأنعام: 103- 102].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأمينه ومصطفاه، وعبده ومجتباه، بعثه بالرحمة وبالهدى، والنور والضياء، والإسلام والتقى، بين يدي الساعة بشيراً ونذيرا، وداعي إلى الله بإذنه وسراج منيراً، فأقام الله به الحجة وأوضح المحجة، وأكمل به الدين، وأتم به النعمة، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه من نبي كريم، وعلى أتباعه والتابعين وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله امتثالا لأمر الله عز وجل، ووصيته إياكم:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ). (آل عمران:102).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً). [الأحزاب: 71]
اللهم ارزقنا تقواك في السر والعلانية، ومراقبتك في الغيب والشهادة، وخوفك في المنشط والمكره، والسراء والضراء يا حي يا قيوم.
أيها المسلمون:
عوداً على بدء، ويتواصل الحديث، ويتجدد اللقاء عن الهيئات ودورها، ورجالها وأعمالها، وأعدائها وخصومها.
هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذلك الصرح الشامخ، وتلك المؤسسة العظيمة التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها علينا في هذه المجتمعات، فكانت نعمة ورحمة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يديمها ويزيدها، ويثبت أهلها، ويكبت أعداءها وخصومها، إنّه ولي ذالك والقادر عليه.
أيها المسلمون:
لقد ذكّرتكم بما هو حاصل بالساحة هذه الأيام من الحملة المسمومة، ومن المعركة المحمومة الذي شنت عبر صفحات الإعلام الداخلي والخارجي على هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورجالها، من خلال ما يشاع حولها من أكاذيب، ويلفق ضدها من تهم.
وحيث أن هذه الحملة المحمومة قد انتقلت عدواها إلى مجالس المسلمين العامة، فأصبحت حديث الناس الحادثة، وشغلهم الشاغل، وأصبحوا يرددون ما يسمعون، ويقرأون عن الهيئات وأهلها، وجدت لزاماً علي أن أعرض جملة من أشهر الشبه الذي يلبّس بها المبطلون على الهيئات وأهلها، والمصلحين والمجاهدين، والآمرين والناهين، لكشف زيفها ودحضها، وإبطالها والرد عليها، وبيان كذبها وافتراء أهلها، فإن المبطلين يفترون على الله الكذب، ويشيعون عن المصلحين والآمرين بأنهم غوغاء، وبأنهم متعصبون متعجرفون، خطر على المنجزات الحضارية، ويقولون عنهم بأنهم يتدخلون في الحريات الشخصية، ويقولون بأنهم ضد التقدم والتحضر والرقي، ويقولون بأنهم ضد الرفاهية الاجتماعية، ويشيعون عنهم بأنهم ضد الاقتصاد المتحضر، وبأنهم ضد الإعلام، وبأنهم ضد تعليم المرأة وعملها، فهذه من أشهر الشبه التي سألقي الضوء عليها وأكشفها بعون الله وتوفيقه.
فالمبطلون يقولون ويروجون في إعلامهم أن المصلحين في المجتمعات الإسلامية متعصبون ومتزمتون، ومتعجرفون وجامدون، وبأنهم أصوليون، إلى غير ذالك مما نسمع من الألفاظ ونقرأها في الإعلام العالمي، وأحيانا المحلي.
فنقول: الله أكبر إنها السنن!.
ما دعا داعٍ لله عز وجل، ولا أمر آمرٌ بالمعروف ولا نهى ناهٍ عن المنكر، ولا سعى ساعٍ لإصلاح الفساد في الأرض إلا أوذي أذىً معنوياً ومادياً!.
وهل هناك أفضل من أنبياء الله عز وجل ورسله؟!.
وهل هناك خير من سيد الأولين والآخرين عليه الصلاة والسلام؟!.
إننا نجد في الكتاب العزيز كيف تجرأ المبطلون وأطلقوا على النبيين خيرة خلق الله ألفاظ الشماتة والكذب والبذاءة، لأنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، هذا نبينا صلى الله عليه وسلم الذي كان بشهادة الكفار خصومه كان الصادق الأمين، صلوات الله وسلامه عليه، وهم الذين سمّوه بهذا الاسم وأطلقوه عليه.
ولما كان ساكتاً ومعرضاً عنهم، كانوا يصفونه بالحكمة والرزانة والتعقّل، فلما أمرهم ونهاهم، صلوات الله وسلامه عليه، ما تركوا لفظاً من قاموس السب والشتم إلا وصموه ووصفوه به، عليه الصلاة والسلام، فقالوا عنه: إنه كذّاب، وقالوا عنه: إنه مجنون، وقالوا عنه: ساحر، وقالوا عنه: إنه مريد، وقالوا عنه: كذا وكذا، إلى غير ذالك مما نقرأ في كتاب الله عز وجل.
أيها المسلمون:
إننا في زمان انقلبت فيه الموازين، وانتكست المقاييس، فهذا الذي يغار على دين الله عزّ وجل، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصلح الفساد في الأرض، يُطلقُ عليه: أنه رجعي، وأنه أصولي، وأنه خطر على المنجزات الحضارية، أما المواطن الصالح فهو الساذج الذي يساير الناس على أوضاعهم، ويوافقهم على أهوائهم، لا يقول في شيء فعلوه: لما فعلتموه؟!، ولا يقول في شيء لم يفعلوه: هلا فعلتموه، هذا هو المواطن الصالح، وهذا هو صاحب الحكمة والرزانة والتعقل عندهم، ولو كان غافلاً ساذجاً، بل ولو كان منافقاً فاجراً، ولو كان علمانياً مارقاً هو مواطن صالح.
فعجباً، والله عجباً!
وبمثل هذا وُصف الرسلُ، ألم تسمع في كتاب الله عز وجل كيف وصف فرعون موسى عليه الصلاة والسلام؟! فقال عنه: (إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ). [غافر: 26]. وقال فرعون عن نفسه: (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ). [غافر: 29].
عجبا والله! فأيّ رشاد عند فرعون؟!. وأي فساد عند موسى؟!.
لكنه الكذب والتزييف وقلب الحقائق.
سلام على الدنيا، سلام على الورى *** إذا أرتفع العصفور وانخفض النسر.
ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً *** تجاهلت حتى ظُنِّ أني جاهل.
فواعجباً؛ كم يدعي الفضل ناقص! *** وواعجباً، كم يرتضي النقص كامل.
ومما يطلقه المبطلون على المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ويصفونهم به: أنهم يتدخلون في حريات الناس الشخصية!.
وجواباً على ذلك نقول: إن الحرية الشخصية للمسلم مكفولة بكتاب الله عز وجل، ومضمونة بسنة رسوله صلي الله عليه وسلم، ومحمية بشرع الله عز وجل، والمصلحون بهذا المفهوم أول من يفهم الحرية الشخصية، بل ويطبقها ويدافع عنها، فهم يسعون لردع الذين يعتدون على حريات المسلمين، فيعتدون على أموالهم بالنهب والسرقة، والابتزاز والرشوة والأكل بالباطل، ويقاومون الذين يعتدون على أعراض المسلمين بالدياثة والدعوة للفاحشة، وبالمعاكسات وغير ذلك.
هذه هي الحرية الشخصية التي نجدها في كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم، لكن القوم يريدون حرية شخصية من نوع أخر، يريدون حرية شخصية متفلتة لا ضابط لها ولا قيود، متفلتة من كل دين، متحررة من كل قيمة وشيمة، يريدون فوضى أخلاقية واجتماعية، كتلك الحريات الموجودة في أمم الغرب والشرق من دول اليهود والنصارى، فالبارات والداعرات، ومؤسسات الفجور، تفتح أبوابها على المصاريع، والرجل يخرج عارياً جهاراً نهاراً؛ يشرب الخمر، والمرأة تخرج متحللة متبرجة، متعرية يحتضنها الرجل ويقبلها، ويلثمها أمام الناس، وكل عشيق وعشيقته، وكل صديق وصديقته، وكل خليل وخليلته!.
هذه هي الحرية التي يريدها أولئك الناعقون، الذين ينعقون بالصحف الداخلية والخارجية، شنشنة نعرفها من أخزم، وهذا الأمر كما قاله أسلافهم الذين وقفوا في وجه الأنبياء والمصلحين: (قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ). [هود: 87].
إن الحرية بهذا المفهوم مرفوضة رفضاً باتاً، وكلنا حرب عليها، وكلنا ضدها.
إنها ليست حرية، إنها فوضى وتحلّل، فوضى أخلاقية واجتماعية.
إنها استئسار لعادات اليهود والنصارى، استئسار لمبادئ أمم الغرب والشرق، والكفر والضلال.
إنها اعتداء على حرية المجتمع المسلم بأسره.
نعم، فهذا الذي يشرب الخمر يعتدي على المحارم والأموال، لأنّه سكران، وهذه المرأة التي تخرج متهتّكة متخلّعة متعرية، تفتن الرجال، فيحدث من الفساد والفوضى ما الله به عليم، وكل هؤلاء يسعون في جلب العذاب الأليم للأمة وللمجتمع بأسره.
هؤلاء يستفتحون عقوبة عاجلة تحيق بالمجتمع كله، لأنه لم يأمر بالمعرف ولم ينه عن المنكر، فواجب علينا أن نقف في وجوه هؤلاء جميعاً.