الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تعالى ـ حَقَّ التَّقوَى ، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى ، وَاحذَرُوا أَسبَابَ سَخَطِ رَبِّكُم ـ جَلَّ وعلا ـ فَإِنَّ أَجسَامَكُم عَلَى النَّارِ لا تَقوَى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ عَدَمَ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ ، وَالرِّضَا بِالمُنكَرَاتِ وَالسَّمَاحَ لها بِالانتِشَارِ ، وَغَضَّ النَّظَرِ عَنهَا وَطَأطَأَةَ الرُّؤُوسِ لها ، مَا هُوَ إِلاَّ سُمٌّ تُمَاتُ بِهِ القُلُوبُ المُؤمِنَةُ الحَيَّةُ ، حتى تَحُلَّ مَكَانَهَا في الصُّدُورِ قُلُوبٌ مُنَافِقَةٌ مَيِّتَةٌ ، تَتَّبِعُ أَهوَاءَها بِغَيرِ عِلمٍ ، وَتَبحَثُ عَن شَهَوَاتِهَا دُونَ عَقلٍ ، وَتَستَمِيتُ في حَربِ مَن حَالَ بَينَهَا وَبَينَ شَهَواتِهَا دُونَ تَفكِيرٍ ، شَاهِدُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الإِمَامُ مُسلِمٌ عَن حُذَيفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنه ـ قال : سَمعِتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ يَقُولُ : " تُعرَضُ الفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ كَالحَصِيرِ عُودًا عُودًا ، فَأَيُّ قَلبٍ أُشرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكتَةٌ سَودَاءُ ، وَأَيُّ قَلبٍ أَنكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكتَةٌ بَيضَاءُ ، حتى تَصِيرَ عَلَى قَلبَينِ : عَلَى أَبيَضَ مِثلِ الصَّفَا ، فَلا تَضُرُّهُ فِتنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ ، وَالآخَرُ أَسوَدُ مُربَادًّا كَالكُوزِ مُجَخِّيًا ، لا يَعرِفُ مَعرُوفًا وَلا يُنكِرُ مُنكَرًا إِلاَّ مَا أُشرِبَ مِن هَوَاهُ " إِنَّنَا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ يَجِبُ أَلاَّ نُضِيفَ إِلى تَقصِيرِنَا في وَاجِبِ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ مُنكَرًا آخَرَ بِمُحَارَبَةِ الآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ أَو بُغضِهِم ، أَو تَصدِيقِ مَا يُلَفَّقُ ضِدَّ رِجَالِ الحِسبَةِ ، أَو تَعمِيمِ مَا يَقَعُ فِيهِ بَعضُهُم مِن أَخطَاءٍ أَو تَجَاوُزَاتٍ ، أَو حُبٍّ لانتِشَارِ المُنكَرِ وَفَرَحٍ بِغِيَابِ المُعرُوفِ ، وَإِنَّنَا إِنْ فَعَلنَا ذَلِكَ فَقَد شَارَكنَا أَهلَ المُنكَرَاتِ في مُنكَرَاتِهِم وَإِنْ لم نَحضُرْهَا بِأَبدَانِنَا ، قال ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ : " إِذَا عُمِلَتِ الخَطِيئَةُ في الأَرضِ كَانَ مَن شَهِدَهَا وَكَرِهَهَا كَمَن غَابَ عَنهَا ، وَمَن غَابَ عَنهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَن شَهِدَهَا " وقال ـ عليه السَّلامُ ـ : " المَرءُ مَعَ مَن أَحَبَّ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ قَضِيَّةَ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ لَيسَت قَضِيَّةً سَهلَة ، إِنها تَعني نجَاةَ الأُمَّةِ أَو هَلاكَهَا ، إِنَّ القِيَامَ بِالأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ مُؤَشِّرٌ عَلَى قُوَّةِ الإِيمَانِ وَعُلُوِّ قَدرِ الدِّينِ في القُلُوبِ ، وَإِنَّ تَركَهُ لَدَلِيلٌ عَلَى ضَعفِ الإِيمَانِ وَرِقَّةِ الدِّينِ في النُّفُوسِ ، قال ـ عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن رَأَى مِنكُم مُنكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لم يَستَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لم يَستَطِعْ فَبِقَلبِهِ ، وَذَلِكَ أَضعَفُ الإِيمَانِ " وقال ـ عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَثَلُ القَائِمِ في حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ استَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ ، فَصَارَ بَعضُهُم أَعلاهَا وَبَعضُهُم أَسفَلَهَا ، فَكَانَ الذين في أَسفَلِهَا إِذَا استَقَوا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَن فَوقَهُم ، فَقَالُوا : لَو أَنَّا خَرَقنَا في نَصِيبِنَا خَرقًا وَلم نُؤذِ مَن فَوقَنَا . فَإِنْ تَرَكُوهُم وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا ، وَإِن أَخَذُوا عَلَى أَيدِيهِم نَجَوا وَنَجَوا جَمِيعًا " وقال ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ : " وَالذي نَفسِي بِيَدِهِ ، لَتَأمُرُنَّ بِالمَعرُوفِ وَلَتَنهَوُنَّ عَنِ المُنكَرِ أَو لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عَذَابًا مِنهُ ، ثم تَدعُونَهُ فَلا يَستَجِيبُ لَكُم " وقال ـ عليه السَّلامُ ـ : " مَا مِن رَجُلٍ يَكُونُ في قَومٍ يُعمَلُ فِيهِم بِالمَعَاصِي يَقدِرُونَ عَلَى أَن يُغَيِّرُوا عَلَيهِ وَلا يُغَيِّرُونَ ، إِلاَّ أَصابَهُمُ اللهُ مِنهُ بِعِقَابٍ قَبلَ أَن يَمُوتُوا " وَأَخِيرًا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَإِنَّهُ وَإِن كانَ رِجَالُ الحِسبَةِ بَشَرًا يُصِيبُونَ وَيُخطِئُونَ ، وَيَقَعُونُ فِيمَا يَقَعُونَ فِيهِ وَيَتَجَاوَزُونَ ، فَإِنَّ الجَرَائِدَ وَالصُّحُفَ لَيسَت هِيَ المَكَانَ المُنَاسِبَ لِتَصحِيحِ أَخطَائِهِم ، لا وَاللهِ وَكَلاَّ ، فَمَرَاكِزُهُم مَعرُوفَةٌ ، وَأَبوَابُ مَسؤُولِيهِم مَفتُوحَةٌ ، وَالنَّصِيحَةُ لهم وَاجِبَةٌ ، قال ـ عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " الدِّينُ النَّصِيحَةُ " فَرَحِمَ اللهُ امرَأً أَعَانَ الآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ النَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ ، أَو سَكَتَ عَنهُم وَتَرَكَهُم في شَأنِهِم ، قال ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ : " وَمَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرًا أَو لِيَسْكُتْ " وقال أَحَدُ السَّلَفِ : لِيَكُنْ حَظُّ المُؤمِنِ مِنكَ ثَلاثًا : إِنْ لم تَنفَعْهُ فَلا تَضُرَّهُ ، وَإِنْ لم تُفرِحْهُ فَلا تَغُمَّهُ ، وَإِنْ لم تَمدَحْهُ فَلا تَذُمَّهُ .