ومما يحمل على الأول، فيحتمل فيه الاستفهام أن يكون على حقيقته من طلب الفهم، وأن يكون مرادًا به معنى آخر من المعاني، التي يخرج إليها الاستفهام قول فرعون لعنه الله:
﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ﴾(الزخرف: 51)
فهذا يحتمل أن يكون استفهامًا حقيقيًّا بأن يكون لا يعلم أن له ملك مصر، ويحتمل أن يكون عالمًا بذلك؛ ولكنه أورده على سبيل الافتخار.
وقوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام:
﴿ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ﴾(هود: 78)
أي: رجل واحد يرشدكم إلى ترك هذا العمل القبيح، ويمنعكم منه. فهذا يحتمل أن يكون استفهامًا حقيقيًّا، ويحتمل أن يكون الغرض منه الإنكار.
وعلى هذا يجري قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ ؟
فهذا استفهام يراد به التذكير والتنبيه، لا التقرير. ولو كان المستفهِم- هنا- غير الله جل وعلا، لجاز حمله على أصله من طلب الفهم.
أما حمله على استفهام التقرير فلا يحوز بحال من الأحوال؛ لأن حمله على ذلك يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جاحدًا لشرح الله تعالى له صدره، ورفعه له ذكره، ووضعه عنه وزره، بعد أن استقر علم ذلك عنده، وحاشا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك .. وإنما ذلك تنبيه له وتذكير.. فتأمل !
وإذا كانوا لا يفرقون بين قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾(الشرح: 1) ، وبين قوله تعالى:
﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ﴾(الأعراف: 172)
فلأن معنى التقرير- عندهم- هو الإثبات، ولا دليل لهم على ذلك سوى أن كلاًّ منهما يجاب بـ( بلى ) في الإيجاب. والفرق بينهما: أن كل تقرير إثبات، وليس كل إثبات بتقرير. وأن التقرير هو غرض من الأغراض، التي يخرج إليها الاستفهام عندما يكون معناه الإثبات، مثله في ذلك: التذكير، أو التنبيه، أو التوبيخ، أو الافتخار..
وقد كان عدم تفريقهم بين الإثبات، والتقرير سببًا في اختلافهم في المراد من الاستفهام الداخل على النفي، في كثير من آي القرآن الكريم؛ ومن الآيات التي اختلفوا فيها قوله تعالى:
﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ﴾(العنكبوت: 68، والزمر: 32)
قال الزمخشري:” أليس: تقرير لثوائهم في جهنم، وحقيقته: أن الهمزة همزة إنكار، دخلت على النفي، فرجع إلى معنى التقرير“.
وقال أبو السعود، وتبعه الألوسي:” تقرير لثوائهم فيها؛ كقول من قال:
ألستم خير من ركب المطايا
أي: ألا يستوجبون الثواء فيها، وقد فعلوا ما فعلوا من الافتراء على الله تعالى، والتكذيب بالحق الصريح.. أو: إنكار، واستبعاد لاجترائهم على ما ذكر من الافتراء والتكذيب، مع علمهم بحال الكفرة. أي: ألم يعلموا أن في جهنم مثوى للكافرين، حتى اجترءوا هذه الجراءة “.
وكون الاستفهام- هنا- للتقرير يتناقض مع كونه للإنكار. والجمهور على أنه للتقرير. والتقرير- باتفاقهم جميعًا- هو حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر علمه عنده، ثم جحد به. فهل كان الكافرون مقرين ومعترفين بأن مستقرَّهم النار؟ فإذا كان الأمر كذلك، فالمراد من هذا الاستفهام التقرير؛ وإلا فهو متضمِّن لمعنى الوعيد والتحقير، وقد سمَّاه السيوطي في ( الإتقان ) بالاكتفاء، ومثَّل له بقوله تعالى:
﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾(الزمر: 60)
أي: أليست جهنم كافية لهم سجنًا وموئلا لهم، فيها الخزي والهوان، بسبب تكبرهم وتجبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق ؟
ومن ذلك قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(البقرة: 106)
فقد ذهب الزمخشري إلى أن الاستفهام فيه للتقرير. وقال الزركشي:” الكلام مع التقرير موجب، وجعل الزمخشري منه:
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(البقرة: 106)
وقيل: أراد التقرير بما بعد النفي، لا التقرير بالنفي.. والأوْلى أن يجعل على الإنكار. أي: ألم تعلم أيها المنكر للنسخ “.
وذهب الفخر الرازي إلى أن المراد بهذا الاستفهام: التنبيه.. وذهب ابن عطية إلى أن ظاهره الاستفهام المحض.. ورده أبو حيان قائلاً:” بل هذا استفهام معناه: التقرير “.
وأقرب هذه الأقوال إلى الصواب هو قول الرازي، ونصَّه الآتي:” أما قوله:
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
فتنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره على قدرته تعالى، على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته، وأنه لا دافع لما أراد، ولا مانع لما اختار “.
ومما يبعد أن يكون الاستفهام في هذه الآيات، ونحوها للتقرير أنه يجوز حمله في كل منها على حقيقته من طلب الفهم، وذلك لا يجوز في استفهام التقرير.
خامسًا- وقال تعالى:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾، بصيغة الجمع، ولم يقل:{ ألم أشرح لك صدرك }، بصيغة المفرد. والجواب- كما قال الرازي-:” إما أن يحمل على نون التعظيم، فيكون المعنى: أن عظمة المنعم تدل على عظمة النعمة، فدل ذلك على أن ذلك الشرح نعمة، لا تصل العقول إلى كنه جلالتها.
وإما أن يحمل على نون الجميع، فيكون المعنى: كأنه تعالى يقول: لم أشرحه وحدي؛ بل أعملت فيه ملائكتي، فكنت ترى الملائكة حواليك، وبين يديك حتى يقوى قلبك، فأديت الرسالة، وأنت قوي القلب، ولحقتهم هيبة، فلم يجيبوا لك جوابًا. فلو كنت ضيق القلب، لضحكوا منك.. فسبحان من جعل قوة قلبك جبنًا فيهم، وانشراح صدرك ضيقًا فيهم “.
وقال تعالى:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾، وكان يمكن أن يقال:{ ألم نشرح صدرك }، بدون﴿ لَكَ ﴾؛ ولكن جيء به زيادة بين فعل الشرح، ومفعوله لفائدتين:
الفائدة الأولى: هي سلوك طريقة الإبهام، ثم الإيضاح للتشويق؛ فإنه سبحانه، لما ذكر فعل:﴿ نَشْرَحْ ﴾، عَلم السامع أن ثَمَّ مشروحًا. فلما قال:﴿ لَكَ ﴾، قويَ الإِبهام، فازداد التشويق. فلما قال:﴿ صَدْرَكَ ﴾، أوضح ما كان قد عُلِم في ذهن السامع مبهمًا، فتمكن في ذهنه كمال تمكن.. وكذلك قوله تعالى:
﴿ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ﴾،﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾
وهذا من الإطناب البليغ. قال علماء البيان:” إذا أردت أن تبهم، ثم توضح، فإنك تطنب، وفائدته: إما رؤية المعنى في صورتين مختلفتين: الإبهام والإيضاح. أو لتمكن المعنى في النفس تمكنًا زائدًا، لوقوعه بعد الطلب؛ فإنه أعز من المنساق بلا تعب. أو لتكمل لذة العلم به؛ فإن الشيء إذا علم من وجهٍ مَّا، تشوَّقت النفس للعلم به من باقي وجوهه وتألمت، فإذا حصل العلم من بقية الوجوه، كانت لذته أشد من علمه من جميع وجوهه دفعة واحدة “.
ومن الأمثلة على ذلك قول موسى عليه السلام:
﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾(طه: 25)
فإن ﴿ اشْرَحْ ﴾ يفيد طلب شرح شيء مَّا، و﴿ صَدْرِي ﴾ يفيد تفسيره وبيانه. وكذلك قوله:
﴿ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴾ (طه: 26)
والمقام يقتضي التأكيد للإرسال المؤذن بتلقى الشدائد. وكذلك قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾
فإن المقام يقتضي التأكيد؛ لأنه مقام امتنان وتفخيم.
والفائدة الثانية: أن في زيادة ﴿ لَكَ ﴾ تنبيه على أن منافع الرسالة عائدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ كأنه قيل: إنما شرحنا صدرك لأجلك، لا لأجلنا. وفي ذلك تكريم للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى قد فعل ذلك لأجله.
ومثله في ذلك قول موسى عليه السلام:
﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾(طه: 25)