عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 4  ]
قديم 2007-06-01, 1:44 AM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي
ومن أغرب ما قرأت في تفسير قوله تعالى:﴿ مَثَلُ نُورِهِ ﴾ تفسيرًا للمرحوم الشيخ عبد الرحمن حسن حبنَّكة الميداني في كتابه( أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع )، قال فيه:” مَثَلُ بعض نوره، الذي تستهدون به من خلال تدبر آياته، وما تشعُّه في قلوب المؤمنين، الصادقين في الطلب والبحث والتدبر. أو: نَموذجُ نورِه ممَّا يدرك الناس منه. وهذا النموذجُ هو بعضُ نور الله العظيم “.

الله تعالى يقول:﴿ مَثَلُ نُورِهِ ﴾، والشيخ- رحمه الله- يقول:” مَثَل بعض نوره “. أو:” نموذج نوره ممَّا يدرك الناس منه. وهذا النموذج هو بعض نور الله العظيم “.

رحم الله هذا الشيخ الجليل، وجعل مثواه الجنة ! فلست أدري من أين أتى بلفظ ( بعض )، وحشره بين لفظ ( مَثَلٍ )، ولفظ ( نُورِهِ ) ؟ وهل في الكلام ما يدل على هذا البعض ؟

ثم من أين أتى بلفظ ( نموذج ) ؟ وكيف يكون تفسير قوله تعالى:﴿ مَثَلُ نُورِهِ ﴾ بـ( نموذح نوره ) مقبولاً، أو مستساغًا عند من يتحدث عن صور من أدب القرآن الرفيع ؟

وليت شعري ماذا يقولون في قول الله تعالى:

﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾(التوبة: 32) ؟

أيقولون: يريدون أن يطفئوا بعض نور الله ؟ أو نموذج نور الله ؟ أو يقولون: يريدون أن يطفئوا نور الله الذي ألقاه في صدر المؤمن أو قلبه ؟ أم ماذا يقولون، وإضافة النور إلى الله جل وعلا ظاهرة ظهور هذا النور ؟

ورحم الله النجاشي، الذي فهم ببصيرته النافذة ما لم نفهمه نحن المسلمون. لقد فهم أن الإنجيل والقرآن الكريم يخرجان من مشكاة واحدة، وهما نور من نور الله جل وعلا، فقال مشيرًا إلى ما سمع من كلام الله:” إن هذا، والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة “.

﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾.

واختلفوا في هذا التشبيه: أهو تشبيه جملة بجملة، لا يقصَد فيها إلى تشبيه جزء بجزء، ومقابلة شيء بشيء، أو هو ممَّا قصِد به ذلك ؟ والأول هو الأحسن، وعليه يكون المعنى: مَثَلُ نورِ الله تعالى كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر.

فالمشبَّه هو مثل نور الله جل وعلا. والمشبّه به هو المصباح في زجاجة داخل المشكاة. وبين المشبَّه، والمشبَّه به وجْهُ شَبَهٍ، دلَّت عليه كاف التشبيه.

والقاعدة في التشبيه أن يشبه الأدنى بالأعلى في مقام المدح، وأن يشبه الأعلى بالأدنى في مقام الذم. وكذا في مقام السلب؛ ومنه قوله تعالى:

﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾(ص: 28)

أي: في سوء الحال. أي: لا نجعلهم كذلك.

وقد اعترض على ذلك بقوله تعالى:﴿ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾؛ فإنه شُبِّهَ فيه الأعلى بالأدنى، لا في مقام السلب.

والله قد ضرب الأقلَّ لنوره ** مثلاً من المشكاة والمصباح

وأجيب عنه بأنه للتقريب إلى أذهان المخاطبين؛ إذ لا أعلى من نوره سبحانه وتعالى، فيشبه به. وقد قيل: يمكن أن يكون المشبه به- هنا- أقوى من المشبه؛ وذلك لكونه في الذهن أوضح؛ إذ الإحاطة به أتم.. فتأمل ذلك !

وقد دل وجود لفظ ﴿ مَثَل ﴾ في طرف المشبه، دون وجوده في طرف المشبه به على أن المشبه ليس هو ذات نور الله سبحانه؛ وإنما هو مَثَلُهُ المطابقُ له في تمام أوصافه، المشارِ إليها بقوله تعالى:﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، وهو منتزع من مجموع هذه الصفات، وأن المشبه به هو نور المصباح داخل المشكاة. والأول موجود معلوم في الذهن، والثاني موجود معلوم خارج الذهن.

ولهذا لا حاجة بنا إلى تقدير لفظ ﴿ مَثَل ﴾ عقب كاف التشبيه؛ كما ذهب إليه المفسرون، فقالوا: التقدير:﴿ كَمَثَلِ مِشْكَاةٍ ﴾. وكذلك لا حاجة إلى تقدير مضاف محذوف عقب الكاف؛ كأن يقال:﴿ كَنُوْرِ مِشْكَاةٍ ﴾؛ لأن المشبه به ليس هو نور المشكاة وحدها؛ وإنما هو ما اجتمع من نور المشكاة، ونور المصباح، ونور الزجاجة، ونور الزيت؛ ولهذا وصفه الله تعالى بقوله:

﴿ نُوْرٌ عَلَى نُوْرٍ ﴾.

ومن اللطائف البديعة أن النور، حيثما وقع في القرآن، وقع مفردًا، خلافًا للظلمة فإنها، حيثما وقعت، وقعت مجموعة. ولعل السبب- على ما قيل- هو أن النور واحد؛ كما أن الله تعالى واحد، وأن الظلمة متعددة؛ كما أن الآلهة الباطلة متعددة. تأمل ذلك في نحو قوله تعالى:

﴿ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾(البقرة: 257)

وقيل: المِشْكَاةُ هي الكُوَّةُ غير النافذة بلغة الحبشة، يوضع فيها المصباح، فتحصر نوره وتجمعه، فيبدو قويًا متألقًا، وهذا هو وجه تخصيصها بالذكر دون غيرها. ومنهم من فرق بين الكُوَّةُ والمِشْكَاةِ؛ كقول أحدهم يمدح آخر:

نورُ حَقٍّ بنفسه قامَ، مَا احْتا ** جَ إلى كُوَّةٍ، ولا مِشْكاةِ

فدلَّ ذلك على أن الكُوَّةَ أعمُّ من المِشْكَاةِ، وكلُّ مِشْكَاةٍ كُوَّةٌ، وليس كلُّ كُوَّةٍ مِشْكَاةً. وأصلُ المِشْكَاة: الوِعَاءُ يجعل فيه الشيء؛ ومنه قول الشاعر:

كأن عينيه مشكاتان في جحر

وقيل: المشكاة: صندوق زجاجي، يوضع فيه المصباح.

وقال الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه:” ما وقع في القرآن من نحو المِشْكاة، والقِسْطاس، والإستبرق، والسجِّيل، لا نُسَلِّم أنها غيرُ عربية؛ بل غايتُه أنَّ وَضْعَ العرب فيها وافق لغةً أخرى كالصابون، والتنّور؛ فإن اللغات فيها متفقة “.

وزعم بعض أهل المعاني: أن التشبيه في هذا التمثيل هو من التشبيه المقلوب، وأن المعنى: مَثَلُ نوره كمصباح في مشكاة؛ لأن المشبه به هو الذي يكون مَعْدِنًا للنور ومَنْبَعًا له؛ وذلك هو المصباحُ، لا المِشْكَاةُ. وما تقدم من تفسير لمعنى المِشْكَاةِ يدل على أنها هي الوِعَاءُ، الذي يجمع النور، ويجعله قويًا، وبدونها يبدو ضعيفًا عاجزًا عن كشف المرئيات؛ ولهذا كانت أحقَّ بالتقديم من المصباح. وهذا هو أحد أوجه الإعجاز البياني في هذه الآية الكريمة.

ويتضح لنا ذلك، إذا علمنا أن المرادَ بالمِشْكَاِة الذاتُ الإلهية المقدَّسة مَعْدِنُ الأنوار كلِّها، ومَنْبَعُها، الذي لا ينفد. تأمَّل ذلك في قول النجاشي، الذي تقدَّم ذكره:” إن هذا، والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة “.. ثم تذكَّر أن ضارب المثل هو الله جل وعلا، وفي القرآن أمثلة كثيرة ضربها الله تعالى لصفاته، التي لا تشبهها صفة، فضلاً عن أن تماثلها..

﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾(الروم: 27) ، ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾(الشورى: 11)

أما المصباح فهو السراج، وأصله من الضوء، ومنه الصبح. وما انعكس من شعاعه وسطوعه على الأجسام الصقيلة المعتمة هو نوره. وقد شُبِّهَ به مَثَلُ نورِ الله جل وعلا، في الوضوح، والظهور، والإنارة، والتنوير، والهداية.

وكلا النورين: مَثَلُ نور الله جل وعلا، ونورُ المصباح يوصف بأنه نار ونور. حكى الراغب الأصفهاني في ( المفردات في غريب القرآن ) عن بعضهم قوله:” النار والنور من أصل واحد، وكثيرًا ما يتلازمان؛ لكن النار مَتاع للمقوين في الدنيا، والنور مَتاع لهم في الآخرة. ولأجل ذلك استعمل في النور الاقتباس؛ كقوله تعالى:

﴿ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾(الحديد: 13) “.

والمراد بالنار- هنا كما ذكرنا سابقًا- النار الصافية، التي كلَّم الله تعالى بها موسى عليه السلام. فمِثْلُ هذه النار يقال لها: نارٌ ونورٌ، بخلاف النار المظلمة؛ كنار جهنم. فتلك لا تسمى نورًا. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:

﴿ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾(النمل: 7- 9)

جاء في التفسير عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن المراد بقول الله تعالى﴿ مَنْ فِي النَّارِ ﴾: الله جل جلاله. وأن المراد بالنار: نوره سبحانه. وأن المراد بقوله تعالى:﴿ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾: الملائكة.

هذا قول ابن عباس، وليس قول زيد، أو عبيد حتى يعترض عليه المعترضون ! ويدل عليه تنزيه الله تعالى نفسه عقب ذلك بقوله:

﴿ وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾

ثم إخباره جل وعلا عن نفسه بقوله:

﴿ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

ويتضح لنا ذلك، إذا علمنا أن النور المضاف إلى الله سبحانه يقع على ذاته المقدسة، ويقع على صفاته القدسية القديمة. ومثله في ذلك نور المصباح.

وكما أن إضافة النور إلى الله سبحانه هي من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ فكذلك إضافة النور إلى المصباح هي من إضافة الصفة إلى الموصوف. وبيان ذلك: أن الأصل في قولنا: نور الله، ونور المصباح: اللهُ تعالى النورُ، والمصباحُ النورُ. فالاسم الأول منهما موصوفٌ، والثاني صفةٌ ملازمةٌ له، قد أُخْبِِرَ بها عنه. وقد أضيف الثاني منهما إلى الأول بعد أن جرِّد من الألف واللام، لإرادة معنى التخصيص. أي: تخصيص الصفة بموصوفها؛ ونحو ذلك قوله تعالى:

﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ﴾(الواقعة: 95)

وأصل الكلام: إن هذا لهو الحقُّ اليقينُ. ثم قيل: حقَُ اليقين، بإضافة الأول إلى الثاني.

والعرب إنما تفعل ذلك في الصفة المعرفة اللازمة لموصوفها لزوم اللقب للأعلام؛ كقولهم:{ زيدُ بطَّةٍ }. وأصل الكلام:{ زيدٌ بطَّةٌ }. أما الصفة، التي لا تثبت ولا تلزم موصوفها، فلا تضاف إلى الموصوف، لعدم الفائدة المخصِّصة، التي لأجلها كانت هذه الإضافة. وهذا يؤكِّد ما ذكرناه أولاً من أن النور وَصْفٌ من أوصاف الله تعالى، قائمٌ به، وملازمٌ له، لا يفارقه أبدًا كنور المصباح.. وبهذا يظهر لك سِرُّ تشبيه مثل نوره جل وعلا بنور المصباح دون غيره من الأنوار.

ثم وصف سبحانه هذا المصباح، فقال:

﴿ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ﴾

والزجاجة هي القنديل من البِلَّوْر الشَّفَّاف الصافي، جعل فيها المصباح؛ لأن الضوء في الزجاج أظهر وأبين منه في كل شيء. ووجه ذلك أن الزجاج جسم شفَّاف يظهر فيه النور أكمل ظهور.

ثم وصف الزجاجة، فقال:

﴿ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٍّ ﴾

هذه الزجاجة لصفاء جوهرها، وحسن منظرها، كأنها كوكب دريٌّ. أي: كوكب مضيء متلألىء، يشبَه الدرَّ في صفائه، ولونَ نوره.

وأهدأُ النور، وأجملُه هو ذو اللون الدرِّيِّ. وذهب الجمهور إلى أن المراد بالكوكب الدري- هنا- كوكب من الكواكب المضيئة؛ كالزهرة والمشتري، والثوابت، التي في العظم الأول. ودَرَارِيُّ الكواكب- على ما قيل- عِظامُها.

وفي ذكر المصباح، والزجاجة منكَّرين، ثم إعادتهما معرَّفين، والإخبار عنهما بما بعدهما، مع انتظام الكلام بأن يقال: كمشكاة فيها مصباح في زجاجة كأنها كوكب دري، من تفخيم شأنهما، ورفع مكانتهما بالتفسير إثر الإبهام، والتفصيل بعد الإجمال، ما لا يخفى حُسْنُه وبَهاؤُه.