عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 2  ]
قديم 2007-05-30, 12:27 PM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي
ورغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تعيد أمته النظر في استعمال أدويتهم الشعبية، التي يمارسون تطبيقها دون استشارة طبيب، وأن يبعدوا عنها المغالات، وأن يقتصروا في تطبيقها على مجالات معينة حيث تفيد، فنبههم إلى أن الدواء، إنما يشفي بإذن الله تعالى، إذا وافق الداء، أي لابد من تشخيص ولابد من اختيار دواء ملائم يستعمل بمقدار وبطريقة موافقين، فقال عليه السلام : " لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله عز وجل " [7]

وأورد عليه السلام ذكر الأدوية الشعبية في زمانه، وهي الحجامة المدماة والكي والعسل، فاعترف بأنها لها فوائدها، ولكنه نبه إلى أن استعمالها طبياً، يجب أن يكون موافقاً للداء أي تابعاً لوجود استطباب، وكرر النهي عن الكي والرقى ـ وهي المعالجة الروحية بالقراءات ـ وذلك لشدة الشطط في استعمالها دون مبرر علمي .

1. روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن كان في شيء من أدويتكم، أو يكون في شيء من أدويتكم خير، ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لدغة بنار توافق الداء وما أحبّ أن أكتوي" قال الحافظ ابن حجر في شرحه (توافق الداء) : فيه إشارة إلى أن الكي إنما يشرع عندما يتعين طريقاً إلى إزالة الداء، وأنه لا ينبغي التجربة لذلك ولا استعماله إلا بعد التحقق أ هـ .

أقول : إن الضمير المستتر في كلمة توافق يجوز رجوعه إلى (لذعة بنار) أقرب مذكور ويجوز رجوعه إلى الثلاثة (شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار) .

وهذه الرواية للبخاري هي أدق تعبيراً من الروايات الأخرى التي رواها هو أو غيره في هذا الباب .

2. وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي " قال ابن حجر : ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم الحصر في الثلاثة، فإن الشفاء قد يكون في غيرها أهـ .

أي لم يرد النبي عليه السلام الحصر الحقيقي، وإنما قصد حصراً نسبياً أو إضافياً يقصده المتكلم، ويستعمله في بيانه كأسلوب من أساليب البلاغة، لجذب الانتباه إلى ما يقصده ويتكلم عنه ويتعلق به غرضه من ذلك البيان[8].

3. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي وكان يكره شرب الحميم " [9] يعني الماء الحار.

4. وعن سعد الظفري (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكي، وقال : أكره شرب الحميم )[10].

5. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الكي )قال : فابتلينا فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا[11]. وفي رواية : (نهينا عن الكي ) .
قال الخطابي : قيل إنما نهي عمران خاصة عن الكي، لأنه كان به ناصور، وكان موضعه خطراً فنهاه عن كيه، فيشبه أن يكون النهي منصرفاً إلى الموضع المخوف منه والله أعلم [12] وبهذه المناسبة أذكر أن الزهراوي ذكر في كتابه (التصريف) معالجة بعض نواسير المقعدة بالكي مع احتمال عدم الاستفادة .

إن النهي عن الكي في الأحاديث السابقة، ليس على عمومه وإطلاقه، فقد وردت أحاديث نبوية سنراها تفيد استعمال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للكي، فالنهي منصبّ على الاستعمال الشعبي المغالي في تطبيقاته، دون وجود استطباب، ولذا قال ابن حجر في فتح الباري: ويؤخذ من الجمع بين كراهته صلى الله عليه وسلم للكي وبين استعماله، أنهلا يترك مطلقاً ولا يستعمل مطلقاً، بل يستعمل هذا التفسير يحمل حديث المغيرة رفعه " من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التواكل " أهـ .

وفي التعقيب على عنوان عقدة البخاري بقوله : ( باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو) . قال ابن حجر : كأنه أراد أن الكي جائز للحاجة، وأن الأولى تركه إذا لم يتعين [13] وأنه إذا جاز كان أعمّ من أن يباشر الشخص ذلك بنفسه أو بغيره لنفسه أو لغيره، وعموم الجواز مأخوذ من نسبة الشفاء إليه في أول حديثي الباب، وفضل تركه من قوله عليه السلام : " وما أحب أن أكتوي " أ هـ .
وقال المازري [14] : وقوله عليه السلام : " وأنا أنهى أمتي عن الكي " وفي الحديث الآخر : " وما أحب أن أكتوي " إشارة إلى أن يؤخر العلاج به، حتى تدفع الضرورة إليه،ولا يوجد الشفاء إلا فيه، لما فيه من استعمال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي أ هـ .

هذا وإن الاكتواء من دون استطباب علمي يعد تعلقاً بالأوهام، والتعلق بالأوهام منافٍ للتوكل على الله تعالى، كما سنرى في الحديثين التاليين .

6. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أكتوى أو أسترقى فقد برئ من التواكل "[15].

7. وروى الإمام مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : " قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، قال : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : هم الذي لا يكتوون، ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون " وفي رواية نحوه ، وزاد فيها: " ولا يتطيّرون " .

وفي رواية للبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، في حديث طويل عن الذين يدخلون الجنة بغير حساب.. فقال : " هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون " .

ولدى مطالعتي هذا الحديث، خلال تجميعي لمعلومات عن مفهوم التوكل في الإسلام، قلت في نفسي إن رسولنا عليه السلام لم يقل : ( هم الذين لا يتداوون وعلى ربهم يتوكلون ) بل قال : " هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون ) بل قال : " هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون "، وقال في حديث آخر :" .. نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، أو قال دواء واحداً، قالوا : يا رسول الله وما هو ؟ قال : الهرم " [16] .

وبما أن الأخذ بالأسباب اليقينية والعلمية لا يتنافى في الإسلام مع مفهوم التوكل، كما هو واضح لكل من له إلمام بتعاليم الإسلام، وبما أن الأعراب والعامة تجاوزوا في استعمالهم الكي والرقى حدود الطب والعلم، تمشياً مع الشائعات، كما يفعل الأعراب في معظم حوادث الكي، هو الذي تنافى مع التوكل. ثم وجدت أن الإمام الغزالي رحمة الله تعالى قد سبقني إلى هذا الذي تنافى مع التوكل (إحياء علوم الدين )، وذلك في بحثه القيم المستفيض عن التوكل، فقال تحت عنوان (الفن الرابع في السعي في إزالة الضرر كمداواة المرضى وأمثاله ) : أعلم أن الأسباب المزيلة للمرض، تنقسم إلى مقطوع به ومظنون وموهوم. والموهوم كالكي والرقية، أما المقطوع فليس من التوكل تركه، إذ به وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوكلين، وأقواها [17]الكي ويليه الرقية، والطيرة آخر درجاتها، والاعتماد عليها والاتكال إليها غاية التعمق في ملاحظة السبب. وأما الدرجة المتوسطة وهي المظنونة كالمداواة بالأسباب الظاهرة عند الأطباء، ففعله ليس مناقضاً للتوكل بخلاف الموهوم، وتركه ليس محظوراً بخلاف المقطوع .

ويدل على أن التداوي غير مناقض للتوكل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله وأمره به .. أ هـ .

ثم أورد الإمام الغزالي شواهد حديثة على ذلك .

إن الكي الذي تكلم عنه الغزالي، هو الكي شاعت المغالاة فيه عند العامة، يستعملونه دون استطباب جازم أو وصف طبيب خبير، ولذا جعله مثالاً للأسباب الموهومة، التي يتنافى الأخذ بها مع التوكل. إن ذلك الكي المغالي فيه هو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا الكي المنفذ بناء على وصفة طبيب واستطباب علمي كما أوضحت، وكما سيأتي بيانه من فعل الرسول وصحابته له لدى وجود استطباب.

قال ابن حجر في شرحه لحديث البخاري الوارد آنفاً في التوكل : والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض، لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب، ابتاعاً لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفرة، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو أصحابه، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن ينزل من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك، وقال للذي سأله : أعقل ناقتي أو أدعها ؟ قال : اعقلها وتوكل، فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل والله أعلم أ هـ .

التكميد مكان الكي :

لقد لاحظ محمد عليه السلام أن العرب يكثرون من استعمال الكي، ولا سيما في معالجة الآلام، ولا شك أنه يفيد في بعض أنواعها كما سنرى، وكما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " إن كان في شيء شفاء ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار تصيب ألماً ولا أحب أن أكتوي "[18].

فأشار إلى أن الكي بالنار الموافق والمصيب لنوع من الآلام هو دواء، ولكنه غير محبوب عنده.

وكما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي الذي يجري من دون استطباب صحيح، فإنه أشار إلى بديل عنه، والبديل واسطة علاجية فيزيائية مسكنة للألم تفيد في كثير من المجالات التي يستعمل فيها الكي عند قومه، ولكنه دون أن تضيف إلى المريض ألماً جديداً، كما يمكن استعمالها قبل الكي فلعلها تغني عنه.

تلك الواسطة هي التكميد العضو كما في مختار الصحاح تسخينه بخرق ونحوهاوكذا الكماد بالكسر.

وفي القاموس المحيط في الكمد .. والاسم الكماد ككتاب وهي أيضاً خرقة وسخة تسخن وتوضع على الموجوع يشتفي بها من الريح ووجع البطن كالكمادة، وتكميد العضو تسخينه بها.

1. فعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مكان الكي التكميد .. "[19].

2. وعن عبد الله بن مسعود أن ناساً أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن صاحباً لنا اشتكى أفنكتوي؟ فسكت ساعة ثم قال : إن شئتم فاكووه، وإن شئتم فارضفوه " [20] قال ابن الأثير في النهاية أي كمدوه بالرضف، والرضف الحجارة المحماة على النار واحدتها رضفة أ هـ .
أقول : ولا يزال الطب الشعبي حتى زماننا يعالج مغص البطن وبعض الآلام ولا سيما البرودة بالتكميد بخرقة مسخنة أو بحجرة أو فخارة مسخنة بعد لفها بخرقة، تحاشياً من حدوث حرق.

أما الطب في زماننا، فإنه يستعمل التكميد Fomentation لمكافحة الألم أو لغرض آخر، ويستعمل لذلك القماش المبلول بالماء الحار في حرارة محتملة، وقد يضاف إليه بعض الأدوية[21].