مجاهدٌ فوق الموائد !
عندما ينتحر الحماس ؛ يغدو همُّه بطنَه ، ماذا يأكلُ ويشرب !
يقطع الأكيال الطويلة لتتبُّعِ المطاعمِ الجديدة ، يعرفُ عن المطاعمِ مالا يعرفُ عن المساجد ، ومن كانت هِمَّتُه ما يُدخِلُه في بطنه ويأكله ، فقيمته ما يُخرجه .
وأنتَ إذا أعطيتَ بطنَك سُؤلَهُ *** وفرجَك نالا مُنتهى الذمِّ أجمعاً
قال مالك بن دينار : بئس العبدُ عبدٌ همّهُ هواهُ وبطنُهُ .
وقال صفوان بن سليم : ليأتينَّ على الناس زمانٌ تكون هِمَّةُ أحدِهم فيه بطنُه ، ودينُهُ هواهُ .
الأمم تتكالب على أمَّتنا كما تكالَبُ الأكَلَةُ على قصعتها لتأكلَها من أطرافها ، وهمه ؛ ماذا أكلنا بالأمس ؟ وماذا نأكل غداً ؟!
[ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ]
إنَّ للحربِ رجالاً خُلقوا *** ورجالاً لقصعةٍ وثريدِ
قال الحسن البصري ـ رحمه الله : لقد أدركت أقواماً ، إن الرجل منهم ليأتي عليه سبعون سنة ، ما اشتهى على أهله شهوةَ طعامٍ قط .
والبعض منَّا ربما يطلِّق زوجته من أجل طعام !
عن المقدام بن معد يكرب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرَّاً من بطنه ، بحسب ابن آدم أكلاتٍ يُقمن صُلبه ، فإن كان لا محالةَ ؛ فثُلثٌ لطعامه ، وثُلثٌ لشرابه ، وثُلثٌ لنَفَسه "
دَعِ المكارمَ لا ترحل لبُغيتها *** واقعد فإنَّك أنتَ الطَّاعمُ الكاسي
عن أبي جُحَيفَةَ ـ رضي الله عنه ـ قال : أكلتُ ثَريدَةً مِن خُبزٍ ولَحمٍ ، ثُمَّ أتيتُ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجعلتُ أتَجَشَّأُ . فقال :" يا هذا ! كُفَّ مِن جُشائِكَ ، فإنَّ أكثرَ الناسِ شِبَعاً في الدنيا ؛ أكثَرُهُم جُوعاً يومَ القيامَةِ "
بيوت فوق الرمال !
عندما ينتحر الحماس ؛ يشتغل بعض الصالحين بدنياهم على حساب آخرتهم ؛ وانظر ـ بعين الحسرة ـ إلى انشغالهم بالتوسع في بناء بيوت الدنيا الزائلة عن الأعمال الفاضلة .
قَدِمَ ابنُ عمٍّ لمحمد بن واسع عليه ، فقال له : من أين أقبلتَ ؟ قال : مِن طَلَب الدنيا . فقال : وهل أدركتَها ؟ فقال له : لا . فقال محمد : يا سبحان الله ! أنت تطلبُ شيئاً ولم تُدركه ، فكيف تدركُ شيئاً لم تطلُبْه ؟!
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ؛ قال : مر علينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونحن نعالج خُصَّاً لنا . فقال : " ما هذا ؟ " فقلت : خُصٌّ لنا وَهَىَ ، نحن نُصلِحُه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أُرَى الأَمرَ إلاَّ أَعجلَ مِن ذلك "
وعن أبي طلحة الأسدي رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ، فرأى قبة مشرفة ، فقال :" ما هذه ؟! " ، قال له أصحابه : هذه لفلان ، رجل من الأنصار ، قال : فسكت وحملها في نفسه ، حتى إذا جاء صاحبُها رسولَ الله يسلم عليه في الناس ؛ أعرض عنه ، فشكا ذلك إلى أصحابه ، فقال : والله إني لأنكرُ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : خرجَ فرأى قُبَّتكَ ، قال : فرجع الرجل إلى قُبَّته فهدمها حتى سواها بالأرض ، فخرج رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات يوم ، فلم يرها ، قال :" ما فعلت القبة ؟ " ، قالوا : شكا إلينا صاحبها إعراضَك عنه ، فأخبرناه فهدمها ، فقال :" أمَا إن كلَّ بناءٍ وبالٌ على صاحبه ، إلاَّ ما لا ، إلاَّ ما لا ، يعني : ما لا بد منه "
وقِفْ على ما يبذلُ بعضُهم في الكمالياتِ في بيته لترى العجائبَ من الديكورات والتزاويق والأصباغ والزخرفة والتحف والمفروشات والإضاءات وغير ذلك مما يوحي لك أن القومَ باتوا غافلين عن مصارِعِ الهالكين ، وكأنما هم فيها خالدون !
وصدق الصادق المصدوق ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما قال :" لا تقوم الساعة حتى يبنيَ النَّاس بيوتاً يشبهونها بالمراحل ـ قال إبراهيم : يعني الثياب المخططة ـ "
جامع مانع !
عندما ينتحر الحماس ؛ يميل الرأسُ إلى المالِ ، وتتعلقُ القلوبُ بأوساخِ الدنيا ، فيجمعُ ويمنعُ ، ويكاثِرُ ليكابِرَ ، ويلهثُ خلفَ سرابٍ بلقَعٍ ، فيصبحُ الدِّين في ذيلِ قافلةِ الأولويات .
فدوامٌ في الليلِ وآخرُ في النهار ، أعمالٌ مضنية وأشغالٌ مُرهِقة استوعبت الأوقات ، واستحوذت على الاهتمامات ، فماذا بقي للدين يا أيها المسكين ؟!
يا جامعاً مانِعاً والدهرُ يرمُقُهُ *** مقدِّراً أيّ بابٍ عنهُ يُغلقُهُ
جمعتَ مالاً فقُل لي : هل جمعتَ لهُ *** يا غافلَ اللُّبِّ أيَّاماً تُفرِّقُهُ ؟
المالُ عندك مخزونٌ لوارثهِ *** ما المالُ مالُك إلا يومَ تُنفِقُهُ
عن كعبِ بنِ مالكٍ الأنصاريِّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم :" ما ذِئبانِ جائِعَانِ أُرسِلا في غَنَمٍ بأفسَدَ لها مِن حِرصِ المرءِ على المالِ والشَّرفِ لدينِهِ "
عن مُطَرِّفٍ عن أبيه ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله :" يقول ابن آدم : مالي ! مالي ! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيت ، أو لبستَ فأبليتَ ، أو تصدَّقتَ فأمضيت "
عن أسلمَ أبي عمرانَ التَّجيبيِّ ، قال : كُنَّا بمدينةِ الروم فأخرَجُوا إلينا صَفَّاً عظيماً من الروم ، فخرجَ إليهم من المسلمينَ مِثلُهُم أو أكثرُ وعلى أهلِ مصرَ عُقبةُ بنُ عامرٍ وعلى الجماعَةِ فَضَلَةُ بنُ عُبيدٍ ، فحملَ رجلٌ من المسلمينَ على صَفِّ الرُّومِ حتى دخلَ فيهم ، فصاحَ الناسُ وقالوا : سبحانَ اللهِ يُلقي بيديهِ إلى التَّهلُكَةِ ، فقامَ أبو أيُّوبَ الأنصاريُّ فقالَ : يا أيُّها الناسُ إنَّكُم تتأَوَّلُونَ هذه الآيةَ هذا التَّأويلَ ، وإنَّما أُنزلَت هذه الآيةَ فينا معشَرَ الأنصارِ ، لمَّا أعزَّ اللهُُّ الإسلامَ وكثُرَ ناصروهُ ، فقالَ بعضُنا لبعضٍ سِرًّا دُونَ رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم : إنَّ أموالَنا قد ضاعَت ، وإنَّ اللهَّ قد أعزَّ الإسلامَ وكثُرَ ناصِروهُ ، فلو أقمنا في أموالِنا فأصلَحنَا ما ضاعَ منها ، فأنزلَ اللهُ على نبيِّه يرُدُّ علينا ما قُلنا : [ وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة ] فكانتِ التَّهلُكَةُ الإقامَةَ على الأموالِ وإصلاحِهَا وتَرْكَنا الغزوَ ، فما زالَ أبوُ أيُّوبَ شاخِصاً في سبيل الله حتى دُفِنَ بأرضِ الرُّومِ "
وماذا بعد هذا ؟!
تبلَّدَ في الناس حِسُّ الكفاح *** ومالوا لكسبٍ وعيشٍ رتيب
يكاد يُزعزع مِن همَّتي *** سُدورُ الأمينِ وعزمُ المُرِيب
قالب بدون قلوب !
عندما ينتحر الحماس ؛ ينشغل بالأبناء والأهل والزوجات : وليته انقطع إليهم بالتعليم والتربية والتهذيب والتأديب ، لكان ذلك ما نبغِ ، ولكن الحقيقة أنه ركن لتحيق رغباتهم الدنيوية وشهواتهم الحياتية ، عكف عليهم ليغمسهم في مُتَعِ الدنيا الزائلةِ من مساكِنَ ومراكِبَ ومطاعِمَ ومشارِبَ ..
قطعوه عن العمل لدينه ، واشتغل بدنياهم .. تفانى في طاعتهم ، فغفل عن طاعة ربِّه ..
قال تعالى :[ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوًّا لكم فاحذروهم ]
قال عطاء بن يسار : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، كان ذا أهل وولد ، وكان إذا أراد الغزوَ بَكَوا إليه ورقَّقُوه ، فقالوا : إلى من تَدَعُنَا ؟ فَيرِقُّ ويقيم . فنزلت فيه وفيهم .
عن خولة بنت حكيم ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" الولد مَحزَنةٌ مَجبنَةٌ مجهَلَةٌ مبخَلَةٌ "
ولو تأملتَ في حال أبنائه ونسائه لوجدتَ أنهم مثل غيرهم يشاركون الناس في غفلاتهم وشهواتهم ، بلا تميز في مظهرأو مخبر ..
عن جعفرٍ قال : سمعتُ مالكاً يقول : ينطلقُ أحدُهم فيتزوجُ ديباجةَ الحرم ، وخاتونَ امرأةَ ملك الروم ، أو ينطلق إلى جارية فقد سمنَها أبواها وتَرَّفاها حتى كأنها زبدةٌ فيتزوجها ، فتأخذ بقلبه ، فيقول لها : أي شيء تريدين ؟ فتقول : كذا وكذا . قال مالك : فتمرَّط والله دينُ ذلك القارئ ، ويدعُ أن يتزوجَ يتيمةً ضعيفةً فيكسوها ويؤجر "
عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" إن لربِّك عليك حقَّاً ، وإن لنَفسك عليك حقَّاً ، ولأهلك عليك حقّا ، فأعط كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ "