قسوة في القلب !
عندما ينتحر الحماس ؛ يحس بقسوةٍ في قلبه ، وظلمةٍ في فؤادِه ، فلا تدمعُ له عين ، ولا يخشعُ له قلب ، ولا يقشعرُّ له جِلد ، يسمعُ آيات الله تُتلَى عليه كأن لم يسمعها ، يُذكَّر بالقوارِعِ وكأنما المُخَاطَبُ بها سواه ، يُنذَرُ بالعظاتِ فيلتفت فيمن حوله ، فلعلَّها لغيره ..
[ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيماً ]
فمتى كانت آخر دمعة درَّت بها عينك ؟!
رؤية الذات !
عندما ينتحر الحماس ؛ يصبح قولُه فصلا لا يقبلُ الهزلَ ، ورأيُه صوابا لا يحتمل الخطأ ، واختيارُه حقا لا يأتيه الباطل ، فهو يتكلمُ من عُلُو ، ويرى غيره في دنو ،
إذا قلتُ ، فصدِّقوني ، وإذا أمرتُ ، فأطيعوني ، وإذا أشرتُ ، فاتبعوني ..
هكذا يريدُ الناس تبعاً له ، يُلغون عقولَهم ، ويُغلقون قلوبَهم ، منقادين له مستسلمين ..
فهو مصاب بداء التعالي والتعالم .
هلاكُ الناسِ مُذ كانوا *** إلى أن تأتيَ الساعة
بحبِّ الأمر والنهي *** وحبِّ السَّمعِ والطاعة
النظر في المرآة !
عندما ينتحر الحماس ؛ لا يتألم لأحوال العالم الإسلامي وما أصابه من جراح ونكبات ، وآلام وكربات ، لا يتألم لأنين الثكالى ، وحنين اليتامى ، وآهات الحزانى ،
فهو يعيش لنفسه ، وينكفىء على مصالحه ، ويعكف على شئونه ..
وعظيمُ الهِمَّة ، يعيشُ همَّ الأُمَّة !
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يوماً لأصحابه : تَمَنُّوا . فقال رجل : أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهباً ، أنفقه في سبيل الله عز وجل . فقال : تمنوا . فقال رجل : أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله ـ عز وجل وأتصدق به . ثم قال : تمنوا . قالوا : ما ندري ما نقول . قال عمر : أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح . أرمي بهم أكتاف عدوِّهم في سبيل الله .
صريع الغفلات !
عندما ينتحر الحماس ؛ تضيعُ الأوقاتُ هَدَراً في الغفلاتِ والزلاتِ ، فتذهبُ الساعاتُ الطويلةُ بدون فائدة تُذكَر أو عملٍ يُشكَر
فلا تكادُ تراهُ إلا وهو يُتَابِعُ الكرة والمباريات .. والأندية واللاعبين .. والدوري والحكام ، فيا لها من سَوءَةٍ !
جادٌ يلعب مع اللاعبين !
فيا صريعَ الغفلات ، يا قتيلَ الشهوات ..
ذهبَ العُمْرُ وفات *** يا أسيرَ السيئات
ومضى وقتك في لهو *** وسهو وسبات
بينما أنت في غَيِّك *** إِذْ قيل : مات
صائد مصيود !
عندما ينتحر الحماس ؛ يجلس بالساعات الطوال أمام جهاز الحاسوب ، عبر الشبكة العنكبوتية ( الإنترنت ) ينتقل من موقع لموقع ، ومن منتدى لمنتدى ، بدون هدف ، وبغير ضابط ، ومن غير غاية ، يعرض الفتن والمحن على قلبه وعقله
يدفعه الفضول لمتابعة المجهول ، والوقوع في الممنوع ..
فقل لي بربك ؛ ساعاتٌ مضت من عُمُرِكَ ، وأنت تتنقل كالفريسة الضعيفة في شبكة العنكبوت المخيفة ، ما الفائدة العائدة عليك ؟ بماذا خرجتَ ؟ وماذا أصبتَ ؟
هذا إذا سَلِمْتَ من النظرات المحرَّمة للصور السيئة والمناظر السخيفة ، والأفكار المضلة والتصورات المخلّة بدينك وعقيدتك ومنهجك ، والسلامة غنيمة .
فيا لله العجب ! من عاقل يورد نفسه موارد العطب !
خفافيش أعشاها النهار بضوئه *** ولاءمها قِطع من الليل بادياً
فجالت وصالت فيه حتى إذا النهار *** بدا استخفت وأعطت توارياً
رحاة بدون طحين !
عندما ينتحر الحماس ؛ تراه يدور كالرَّحى بالأسواق ، لا ليشتري ما يشتهي ، وإنما للنزهة والترفيه ، وتزجية الفراغ فيما لا فائدة فيه .
فهنيئاً للشيطان به ، قَعَدَ له بطريقِهِ ، وأحاطَهُ بزبانيته ، ونصبَ له رايته ..
فعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " لا تكوننَّ إن استطعت أوَّل من يدخلُ السوق ، ولا آخر من يخرج منه ، فإنَّها معركة الشيطان ، وبها نصب رايته "
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" أحبُّ البلاد إلى الله مساجدها ، وأبغضُ البلادِ إلى الله أسواقُها "
ما أحسن الشغل في تدبير منفعة *** أهلُ الفراغِ ذَوو خوضٍ وإرجافِ
وعجباً لمستقيم ! من أين يأتي له الفراغ ، وهو يعلم ـ علم اليقين ـ لم خلقه الله رب العالمين !
[ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ] لا ليلعبون .. لا ليلهون .. لا ليعبثون ..
[ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ]
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنتَ له فاربأ بنفسِكَ أن ترعى مع الهَمَلِ
صُحفي لا يعرف المصحف !
عندما ينتحر الحماس ؛ تبصره وهو عاكفٌ على الجرائد اليومية والمجلات الدورية يقرأ فيها بِنَهَمٍ ، قد استغرقَتْ جُملَةَ وقته ، يقرأُها من مبتداها لمنتهاها ، الصفحاتُ الفنية .. الرياضية .. الأدبية .. الشعبية .. الإعلاناتُ والدعايات .. اللقاءاتُ والمقابلات ... الاستحكاماتُ والوفيات ..
ينتهي من هذه الصحيفة ، ليقرأ في تلك الجريدة ، وجملة ما فيها معادٌ مكرور ، تُفسِّرُ الماءَ بعد الجهدِ بالماءِ .
وهَبْ أن الأمرَ جائزٌ ، فهل غدا وقتُك بهذا الرُّخْصِ لتُهدِرَهُ في الرُّخص ؟!
والوقتُ أنفَسُ ما عُنيتَ بحفظِهِ *** وأراه أسهَلُ ما عليك يَضيعُ
تعب من الراحة !
عندما ينتحر الحماس ؛ تبحث عنه في المؤسساتِ الإغاثية ، والمكاتبِ الدعوية ، والدوراتِ العلمية ، والمخيماتِ الصيفية ، والمشاريعِ التطوعية ، والأنشطةِ التربوية ، والأعمالِ الخيرية ، فلا تجده ..
فلا شُغْلَ له سوى الاستراحات والنُّزْهات ، والسفريات والرِّحْلات ، والملاهي والمقاهي
يصيدُ ما يحوم أو يعوم في كلِّ يوم .. ومن تتبَّع الصيد غفل .
وقد شُرعت النُّزْهات المباحةُ لجلب الراحة لمن يعيش الجدية في حياته ، فإن النفس إذا كلَّت ملَّت ، ولا بُدَّ لها من فسحة في حلال ، ولكن أن يصبح الأصل في وقته الغالي إهداره في التسالي وضياعه في الفُسَح ، فهذا انتكاسٌ وارتكاس ، وانحراف عن الجادة ، وعدول عن منهج السالفين .
سألَ سائلٌ ابنَ الجوزي : أيجوز أن أُفسح لنفسي في مباح الملاهي ؟
فقال له : عند نفسك من الغفلة ما يكفيها .
نهارُك يا مغرورُ سَهوٌ وغفلةٌ *** وليلُك نومٌ والرَّدَى لك لازم
وسعيُك فيما سوف تَكْرَهُ غِبَّهُ *** كذلك في الدنيا تعيش البهائم
تُسَرُّ بما يفنى وتفرحُ بالمُنى *** كما اغترَّ باللذات في النوم حالِمُ
جرح بدون تعديل !
عندما ينتحر الحماس ؛ تُمْلأُ مجالسه بالقيل والقال ، وكثرة المراء والجدال ، والخوض في أخبار الناس وأحوالهم ، ومثالبهم ونقائصهم ، فيجلس لساعات طويلة في مجالس الغفلة مع من يشاكله في طباعه ، ويشابهه في ضياعه ، لا يذكرونَ الله إلا قليلاً ، يتلاوَمُون كالأنتان ! ويتناطحون كالثيران .
وربما لا همَّ لهم إلا الاشتغال بالصالحين ، وانتقاد العاملين ، وتجريح الناشطين ، وتخذيل المجتهدين ، وتصنيف الباذلين ، وإساءة الظن في المؤمنين ..
فأجرأُ من رأيتُ بظهر غيب *** على عيب الرجال : ذوو العيوب
سَلِمَ منه اليهودُ على ظُلمهم ، والنصارى على ضَلالهم ، وأهلُ العلمنة على كيدهم ، وأهلُ الشهواتِ على فسادهم ، وأهلُ التصوف على انحرافهم ، وأهلُ التشيُّع على زَيغهم ، وأهلُ الأهواء والأدواء ، واشتغلَ ـ تربت يده ورغم أنفه ـ بالمؤمنين الصادقين ..
التهى بعيوب الناس عن عيبه ، واهتم بذنوبهم عن ذنبه ، وأصبح من أَكَلَةِ لُحومِ البَشَر ، ينهش في لحوم الغائبين عنه ، ويتشهى بذكر عيوبهم ورصد أخطائهم ، وكل ذلك تحت مسميات شرعية ( كمصلحة الدعوة ! ) و ( كشف أهل البدع ! ) و ( بيان إحداث أهل الأهواء ! ) و ( الجرح والتعديل ! )
مصطلحات ظاهرها وباطنها الرحمة عند أهل الحق ، وحقيقتها ـ عند هذا وأمثاله ـ الشهواتُ الخفية ، و الحقد والحسد ، وأمراض القلوب وأدواؤها ، كما قال عمرو بن الحمق عندما دخل مع من تسوروا الدار على الحيِيِّ عثمانَ بن عفان ـ رضي الله عنه ـ ليضربه تسع ضربات في صدره ، وهو يقول : ثلاثٌ لربي وسِتٌ لقلبي ، وذلك عندما ضرب الغافقي ـ عليه من الله ما يستحق ـ عثمانَ ـ رضي الله عنه ـ بحديدة معه ، وضرب المصحف برجله ، فاستدار المصحف واستقر بين يديه ، وسالت عليه الدماء ..
" وهم يهابون في قتله ، وكان كبيراً ، وغُشيَ عليه ، ودخل آخرون ، فلما رأوه مغشياً عليه جروا برجله ، فصاحت نائلةُ وبناتُه ، وجاء التَّجيبي مخترطاً سيفه ليضعه في بطنه ، فَوَقَتْهُ نائلة ، فقطع يدها ، واتكأ بالسيف عليه في صدره ، ..
" وأما عمرو بن الحمق فوثب على صدره وبه رَمَقٌ ، فطعنه تسعَ طعناتٍ ، وقال : فأما ثلاث منها فإني طعنتهن إياه لله تعالى ، وأما ست فلما كان في صدري عليه . وأرادوا قطع رأسه ، فوقعت عليه نائلة وأم البنين ، وصاحتا ، وأقبل عمير بن ضابىء فوثب عليه ، فكسر ضلعاً من أضلاعه .."
وصدق عبد الله بن عكيم ـ رحمه الله ـ عندما قال : إني لأرى ذكر مساوئ الرجل عوناً على دمه .
فيا أيتها الوحوش الضارية ! إن في النفس لشغلٌ عن كل شغل ، فهلموا إلى ميادين أنفسكم ، ولا تشتغلوا بغيركم ، فإنه لا طاقة لكم بسيئات غيركم في موازين أعمالكم .
عن المستورد ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :" من أكلَ برجُلٍ مسلم أكلَة فإنَّ الله يُطعِمُهُ مِثلَها من جهنم ، ومن كُسي ثوباً برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم ، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء ، فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة "
وعن معاذ بن أنس الجهني ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :" ... ومن رَمَى مُسلماً بشيء يُريدُ شَينَهُ بهِ حَبَسَهُ الله على جِسرِ جهنم حتَّى يَخْرجَ مِمَّا قالَ "
لباس التقوى خير !
عندما ينتحر الحماس ؛ تصغر الاهتماماتُ ، فيصبح هَمُّه ما يلبس ، فمن أجله ينفقُ الأموالَ الطائلةَ ويقضى الأوقاتِ الغاليةَ ، حتى كأنه في كلِّ يوم عروس !
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" تعِسَ عبدُ الدِّينارِ والدِّينارِ والقطِيفةِ والخميصةِ ، وإن أُعطيَ رضيَ وإن لم يُعطَ لم يَرضَ "
يقف أمام المرآة أكثر مما يقف بين يدي مولاه في الصلاة .
يتسخ ثوبه فتثور ثائرته ، وتتسخ صحيفة أعماله بتفريطه في كل ساعة ولا يتأثر أو يتحسَّر .
أصلح الظاهر وأفسد الباطن .
قال أبو الدرداء ـ رضي الله عنه : ألا رُبَّ منعمٍ لنفسه وهو لها جِدُّ مُهين ! ألا ربَّ مُبيضٍ لثيابه ، وهو لدينه مُدَنِّس !
عن أبي أمامة الحارثي ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ : " البذاذةُ من الإيمان " يعني ؛ التقشُّف ورثاثة الهيئة للتواضع وترك التبجح به .
وعن عبد الله بن شقيق ؛ قال : كان رجل من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاملاً بمصر ، فأتاه رجل من أصحابه ، وهو شَعِثُ الرأس مُشْعان ـ ثائر الرأس ـ قال : ما لي أراك مشعاناً وأنت أمير ؟! قال : كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينهانا عن الإرفاه . قلنا : وما الإرفاه ؟ قال : الترجُّل كل يوم .
وعن معاذ بن أنس : قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" من تَرَكَ اللباسَ تواضعاً لله وهو يقدر عليه ؛ دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق ، حتى يخيِّرَه من أيِّ حلل الإيمان شاء يلبسها "
وعن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ أنَّ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمَّا بعثَ به إلى أهلِ اليَمنِ ، قال له :" إيَّاك والتَّنَعُّمَ ؛ فإنَّ عبادَ الله ليسُوا بالمتَنَعِّمينَ "