قرر أن تفر إلى الله كما يطالبك هو بذلك ، ويلح عليك أن تفر إليه ..
عاجلا لا آجلاً (( ففروا إلى الله ))
أمر صريح ، فلماذا يراوغ هذا الإنسان ..؟؟
اعرف الطريق وقد بان لك .. وشمر للسير وقد لاحت لك معالمه ..
وقرر السفر ما دامت أنفاسك تتردد في صدرك ..
فلعلك تجد نفسك غدا محمولا على الأعناق ،
لتوضع في حفرة ضيقة ، تنقلب عليك نيرانا تلظى تشويك ..
وساعتها لن ينفعك الصياح حسرة وندامة :
يا ليتني أعود إلى الدنيا،
فأعمل غير الذي كنت مشغولا به وفيه ومن أجله !
يا خيبة العمر الذي قضيته في جهل وحمق
وأنا أضحك وأغني وأرقص ..!!
لقد منحك الله همة وعزيمة غير أنك لا تستثمرها
على الوجه المطلوب ..
فشد الآن المئزر ، وأحسن العمل ، وأحكم الأداء ،
ليطوي الله لك الرحلة ..
واجعل همك روح العمل لا ظاهره .. وتحقيق الحكمة من القيام بالأمر ،
لا مجرد الأداء الصوري غير المثمر
.. اجعل نصب عينيك منذ اليوم:
)) ففروا إلى الله )).. وعاد يكررها :
اجعل نصب عينيك منذ اليوم )) ففروا إلى الله ))..
ورفع الشيخ بها صوته وقد أغمض عينيه ،
فجاءت مع نبرته المتهدجة وفيها شحنة جديدة ،
شعرت أن لها صدى أعنف مما كان من قبل ..
وسكت قليلا وأحسبه كان يجالد دمعات تهم بالانحدار ..
ثم قال :
دع هذه الآية تحتل أكبر مساحة من قلبك وعقلك..
ثم انظر ماذا تصنع فيك ولك .
ثق يا بُني : أن الفرار إلى الله بصدق .. يقذفك مباشرة إلى السماء ،
لتحيا في مهرجاناتها الحافلة بكل بهجة ونعيم ..
وكلما صح لك الفرار ..
تذوقت ألواناً من أسرار العبادات تجعل قلبك يهتز ،
وروحك تنتشي .. وعقلك يهدأ ، وعينك تقر .. ونفسك تطمئن ..
الفرار إلى الله حقاً ، لا يجعلك تتعلق بقشور الدنيا ،
ولا تتسقط على جيفها أعني شهواتها..!
بل إنك حين تصدق الفرار إلى الله : تجد نفسك في يسر ..
تستعلي على زخارفها وفتنها ، وتسمو فوق كل فخاخ الشيطان
التي يحرص أن يسوقها بين يديك ، وعلى عينيك ليفتنك بها ..
حقيقة الفرار إلى الله .. أن تشحن قلبك بالنور حتى يصبح
كالكوكب الدري يوقد من شجرة مباركة ..
أعني : أن يستوقد قلبك أنواره من شجرة الوحي حتى يتوهج ..
الفرار إلى الله : فرار من حظوظ النفس الظاهرة والخفية
التي تقطعك عن الله جل جلاله .. وتصرفك عن بابه ..
الفرار إلى الله جل جلاله
فرار من صحبة سوء تحول بينك وبين مولاك وسيدك وحبيبك ،
إلى صحبة خير تعينك على مزيد من التقرب إلى الله لتنال رضاه ..
فرار من حظ نفسك وهواك ،
إلى حظ الله ومراده حتى يرضى عنك ..
وتحصيل رضاه غاية المنى .. كما قال القائل :
إذا رضيت فكل شيء هينُ ** وإذا حصُلتَ فكل شيءٍ حاصلُ
وسكت قليلا وابتسم ابتسامة متلألئة مقبلاً على بوجهه كله ،
ثم قال : كان الأصل أن أقف بك هاهنا ..
وشعرت أن هاتفا في غور قلبي : لا لا ايها الشيخ الجليل ..
رحم الله والديك .. واصل ما أنت فيه فإني أجد وقع كلامك في قلبي ..
وكأنما سمع ما تجيش به نفسي .. فقال :
غير أني سأسير بك شوطا آخر ..
من عجيب هذا المحور الأخير من محاور الفرار إلى الله أن قالوا :
رب مطالب عالية لقوم _ هي حظوظ لقوم آخرين _
يستغفرون منها ، ويفرون إلى الله منها ، حيث يرونها
حائلة بينهم وبين الوصول إليه ..!!!
ولأول مرة أجدني أقاطعه حتى أنني شعرت بحياء من مقاطعتي إياه ،
رغم أنه تبسم في وجهي وشجعني ..
قلت: أرجو أن توضح لي هذه النقطة ،
فإنها أُشكلت على فهمي المتواضع ؟
قال : باختصار وفي جملة تختزل القصة كلها ،
أعطيك قاعدة عامة .. ولعلنا في لقاء آخر
يجمعنا سأوافيك بأمثلة كثيرة ..
وشعرت أنه تقصد أن يقوم بهذه الحركة ليشدني إليه
فارتبط به وأعاود الجلوس إليه ، وفرحت أنا لذلك ..
وهززت رأسي وأنا أقول : حسنا اتفقنا ..
وعاد وجهه الطيب يتلألأ بابتسامة تشع نورا في قلبي .. قال :
القاعدة هي أن الإنسان في أول توبته يبقى متشوقا أن يلتزم
ولو في حدود دنيا ، المهم أن يبقى ثابتا عليها ، لا يحيد عنها ..
لكنه ما أن يسير شوطا وهو يجاهد نفسه عليها حتى يرتقي
إلى مقام أعلى مما كان فيه ، فيرى أن المقام السابق
الذي كان فيه قصور بالنسبة لما أصبح يجده في وضعه الجديد ..
ثم يفتح الله على قلبه فيرتقى من جديد إلى مقام أعلى مما كان فيه ..
كما قرر ربنا في محكم كتابه :
)) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين َ ))
فمن حمل سيف المجاهدة على أهواء نفسه من أجل الله :
يفتح الله على قلبه بعد أن يسير شوطا في الطريق أو شوطين ..
فيرى أن المقام الثاني الذي كان فيه ، قد أصبح قصورا
بالنسبة للمقام الجديد الذي يسره الله له ,, وهكذا ..
ولا يزال يعرج إلى مقامات أعلى ..
ما دام مشمرا في الفرار إلى الله ..!
كان هذا الكلام بالنسبة لي مفاجأة لم أحلم بها على الإطلاق ..
لقد فتح الشيخ أمام قلبي آفاقاً رحبة فسيحة مشرقة،
أكثر الخلق عنها غافلون .
وعدت أجمع قلبي لأصغي إلى الشيخ فإذا هو يقول :
هذا الصنف المتميز من الخلق في فرار مستمر ..
وفي توبة دائمة متجددة لا تنقطع هذا الصنف لا تسكن نفسه
إلى شيء دون الله تعالى .. ولا يفرح بما يجد من لذة العبادة ،
لكنه يفرح بمهديها إليه ، وموفقه إليها ، ومعينه عليها ,
وميسرها له . .
تناديه الحظوظ وتهتف به زخارف الدنيا : إليّ .. إليّ ..!!
فيجيبها في ثقة وفي استعلاء :
إنما أريد من إذا حصل لي حصل لي كل شيء..
وإذا فاتني فاتني كل شيء .
قال لي حسنُ كل شيءٍ تجلى ** بي تملى .. قلتُ قصدي وراكا
شعاره المنتصب بين عينيه : (( ففروا إلى الله ))..
فروا من كل شيء إلى الله وحده ..!!
موقفه من حظوظه الدنيوية :
أنه إذا رآها معينة له على مزيد من القرب من ربه ،
أقبل عليها على اعتبار أنها مركب يوصله إلى مقصوده
.. وإن رآها صارفة له عن هدفه وغايته، رفضها ونفر منها،
وفر منها إلى الله .
وخلاصة الأمر :
أن ثمرات الفرار إلى الله كثيرة جدا منها :
راحة قلب ، وقرة عين ، وسكينة نفس ،وجنة معجلة ،
ونعيم يتجدد __ رغم المشقة التي يعانيها _ في البداية _
ومن عزم أن يقطع الطريق في همة يصل ولابد
(( والذين جاهدوا لنهدينهم سبلنا ))
نعم .. الفرار إلى الله جنة معجلة ، ونعيم يتجدد ، وسعادة حقيقية ..
ولكن أكثر الناس لا يعلمون .. وسوف يعلمون هذا كله ،
في يوم لا ينفع فيه الندم أصحابه ..
كان الشيخ يتدفق في حديثه كأنه يغرف من بحر ..
أو يقتبس من نور .. وكان يقف بين الحين والحين وقفات قصيرة ،
ينظر فيها إلى وجهي كأنما يبحث عن شيء ما
، أحسبه كان يكتشف أثر كلامه على قلبي ..
ولعل ذلك كان واضحا جليا ، ومن ثم مضى متدفقا ..
ثم ختم كلامه بقوله :
إن الله ربنا جل جلاله يحب لنا الخير ..
ومن ثم يهيب بنا أن نفر إليه..
ولو أننا فتشنا أنفسنا ، لأيقن أكثرنا أنه يفر من الله ، ولا يفر إليه ..
فهل رأينا محسنا غيره سبحانه ؟؟ وهل لنا رب سواه ؟
وهل رأينا نور الدنيا إلا بتقديره وبكرمه ؟؟
فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ..!؟
ثم تنهد الشيخ وقال : يا لها من آية لو كان في القلوب حياة !
ثم أخذ يدعو بدعوات كثيرة شعرت معها أن الخاتمة كانت مسكا ..
فقد هزتني دعواته وكنت أجد لها صداها المباشر على قلبي ..
وخرجت من عنده وأنا غير الإنسان الذي جاء يسأل عن جملة ..
كنت أظن أني سأسمع جملة توضيحية ليس غير ،
فإذا بي أمام نبع من نور يغتسل فيه قلبي بوضوح ..!!
وأخذت اردد ما قاله الشيخ :
يا لها من آية لو كان في القلوب حياة ..
ولما وصلتُ إلى سيارتي وولجت إليها كنت في غاية الانتشاء ..
كنت أشعر أن للحياة طعماً آخر ..
يا إلهي أين كنت عن هذا كله ؟؟
أين صحبي وأمثالنا من اللاهين عن هذه الينابيع السماوية المشرقة ..!!
يا إلهي كم نعيش في وهم ونحسب أننا على شيء ..!!
ووجدت نفسي ألهج بهذه الدعوات ودمعاتي تتحدر على خدي :
اللهم ارحمنا برحمتك .. اللهم ارحمنا برحمتك .
ومع إدارة محرك السيارة انبعث صوت أغنية مائعة تقول في إثارة :
[ الدنيا برد حبك يدفيني …وأنا احب الدنيا لأجل عينيكِ !!]
وهززت رأسي في أنفة وابتسمت وأنا أقول :
(( ففروا إلى الله )) ..
فروا من صوت الشيطان إلى صوت الرحمن !!!!
ثم بادرت على الفور لتحريك المؤشر ليستقر على إذاعة القرآن الكريم .. وإذا بصوت المقرئ الشجي يردد :
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ((
وأخذت أردد في خشوع :
الله أكبر .. الله أكبر .... يحييكم .. يحييكم ..
نعم نعم .. يحيينا والله ..!
وحمدت الله على أن هداني لهذا وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله !
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
من اطلاعاتي