ومن هذا أيضًا ما حكاه ابن كثير قال: "ذكروا أن رجلاً من جرهم يُقال له: إساف بن بغى وامرأة يقال لها: نائلة بنت وائل اجتمعا في الكعبة فكان منه إليها الفاحشة فمسخهما الله حجرين فنصبهما الناس قريبًا من البيت؛ ليعتبروا بهما"(2).
فالله تبارك وتعالى أبَانَ الناس قبل مبعث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عقوبة من يعبث في هذا البيت، وأثبت لهم (أن للبيت ربًّا يحميه) أما اليوم فالحماية ملقاة على عاتق المسلمين؛ ليدافعوا عن دينه وبيته وشريعته فهم خلفاؤه فى الأرض.
واليوم نرى مخالفات شرعية من مثل فعل إساف ونائلة بالبلد الحرام، والعناية الإلهية لم تتدخل أبدًا بالمسخ أو الحرق أو العقاب الفوري؛ لأن الله تبارك وتعالى أقام شرعه فى الأرض؛ ليقوم المسلمون بتطبيقه وتنفيذه.
ومن هذا أيضًا ما حكاه موسى بن عقبة قال: "لما أرادت قريش أن تأخذ في بنيان الكعبة بعدما هدموها إثر سيول جارفة أحضروا عمالهم فلم يقدر رجل منهم أن يمضي أمامه موضع قدم فزعموا أنهم رأوا حية قد أحاطت بالبيت رأسها عند ذنبها, فأشفقوا منها شفقة شديدة وخشوا أن يكونوا قد وقعوا مما عملوا في هلكة وكانت الكعبة حرزهم ومنعتهم من الناس وشرفًا لهم، فلما سُقط في أيديهم والتبس عليهم أمرهم قام فيهم المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم فذكر ما كان من نصحه لهم وأمره إياهم أن لا يتشاجروا ولا يتحاسدوا في بنائها وأن يقتسموها أرباعًا وأن لا يدخلوا في بنائها مالاً حرامًا وذكر أنهم لما عزموا على ذلك ذهبت الحية في السماء وتغيبت عنهم ورأوا أن ذلك من الله عز وجل "(3).
فانظروا أيها الكرام إلى خوف قريش وهم عبدة الأصنام من هدم الكعبة رغم أنهم يريدون خيرًا بتجديدها، ففى قلوبهم يرسخ تعظيم الله والخوف منه، وهم أهل الربا والمال الحرام ولكنهم لا يضعون فى بيت الله مالا حرامًا.
وانظروا إلى حكمته تبارك وتعالى في أن يبعث لهم حية تقف حائلاً بينهم وبين هدم الكعبة؛ ليظهروا وجهتهم ويخلصوا نيتهم وتكون بحق وقفة مع النفس حتى لا يتجرأ أحد بعد ذلك ويُقدم على هدمها!.
كل هذا قبل البعثة، أما بعدها فالأمر يختلف تمامًا! فقد حذرنا ربنا تبارك وتعالى من مغبة سب آلهة المشركين فيسبوا الله عدوا وظلمًا بغير علم، فقال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام108] فلو كان الله تكفل الدفاع عن دينه فى كل كبيرة وصغيرة لأمر المسلمين أن يسبوا آلهة الكفار الباطلة، وإذا سبوا الله فسيهلكهم ويمسخهم قردة وخنازير.
ولكنَّ الله تبارك وتعالى اقتضت حكمته أن يكون هناك شرع حكيم يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الظلم والعدوان، وأن يتولى المسلمون الدفاع عن هذا الدين بإعداد القوة والضرب على يد المعتدي الظالم، لا أن يقولوا (للبيت رب يحميه).
والدليل العملي على ذلك أيضًا أن السحرة الكائنين بيننا يهزأون بالقرآن ليل نهار بل ويبولون عليه؛ ليرضى عنهم شيطانهم ويقدم لهم ما يريدون على حسب العلاقة التبادلية بينهما، وكلما زاد الساحر فى كفره زادت خدمة الشيطان له، لذا يتبارى السحرة فى الكفر، ومع ذلك لا ينزل الله تبارك وتعالى عليهم صاعقة من السماء، أو طيرًا أبابيل لأنه يريد من المسلمين أنفسهم أن يدافعوا عن دينه وأن يطبقوا شريعته فيه ويقتلوه، كما جاء في الأثر: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ»(4).
ومن هذا أيضًا ما حدث في سنة 64 من الهجرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام فقد قام حصين بن نمير بمحاصرة أهل مكة طالبًا عبد الله بن الزبير بن العوام وقد نصب المنجنيق على البيت حتى احترق، وفي سنة 73 هـ نصب الظالم الحجاج بن يوسف الثقفي المنجنيق حول الكعبة لما لجأ إليها عبد الله بن الزبير وكان هو مطلوب الحجاج فاحترقت!.
فى هذه الأحوال لم تتدخل العناية الإلهية لصد هذه الجحافل ومنع هذا الظلم، ولكن ترك الله تبارك وتعالى للمسلمين معاقبة الظالم المعتدي!.
ومن هذا أيضًا ما حدث منذ عامين أي؛ في 1426هـ حيث طالعتنا بعض الصحف أن بنتًا كويتية كانت تعبث غارقة فى سماع الأغاني واللهو والفساد، وكانت أمها من القانتات العابدات فنصحتها بالصلاة وقراءة القرآن فقامت البنت بعد مشاجرة بينها وبين أمها بركل القرآن الكريم برجلها والاستهزاء به، وفى اليوم التالى دخلت عليها أمها حجرتها فوجدتها حيوانًا غريبًا يشبه فى شكله خليطًا بين القرد والخنزير!.
والعجيب أن تستسيغ عقول المسلمين مثل هذه الشائعات وتركن إليها، وتمس شغاف قلوبهم، لأنهم تربوا على أن الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى الدفاع عن دينه فحسب.
وإذا قام داعية لله تعالى يقول كلمة الحق في مثل هذه الأحداث تجد كثيرًا من الناس يعترض، بل وينصح الداعية أن هذا يُعد تشكيكًا في قدرة الله تعالى.
ولم يعلم هذا الرجل أن مثل هذه الشائعات تساعد على استكانة المسلمين وخضوعهم وخنوعهم لعدوهم الذي يريد منهم أن يقنعوا بثقافة ومنهج (للبيت رب يحميه).
ولم يعتبر المسلمون بما يحدث على أرض الواقع، فها هى إسرائيل تذبح إخواننا الفلسطينيين كل يوم ليل نهار، وتهزأ بالمقدسات وتعيث فى الأرض فسادًا، وها هى أمريكا الكافرة تساعدها فى غيها وضلالها فهما فى الكفر سواء، ومع كفرهم وظلمهم وبغيهم فى الأرض لم ينزل الله عليهم صاعقة من السماء، أو يرسل عليهم طيرًا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، لأن الله تبارك وتعالى اقتضت حكمته أن يترك تصريف مثل هذه الأمور لخلفائه فى الأرض من المسلمين الموحدين الذين أعدوا لهم ما استطاعوا من قوة وبأس.
أما أصحاب ثقافة (للبيت رب يحميه) فهؤلاء كُثر فى هذه الأمة التى أصبحت غثاءً كغثاء السيل بفعل هذه الشائعات التى أسكنتهم وأخملتهم فلم تعد لهم شوكة ولا يخشاهم عدوهم.
ومنذ عدة أعوام ظهرت مطبوعة تقول إنها من الشيخ أحمد حارس المسجد النبوي الشريف، وأنه فى ليلة نام فجاءه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: أن من يفعل كذا وكذا فله كذا من الحسنات، ومن طبع هذه الرسالة عشر مرات فله الشفاعة العظمى ...أو شيئًا من هذا القبيل.
مثل هذه المطبوعة تجد صدى فى قلوب المسلمين العصاه الذين يرتكبون كل محرم من ترك الصلاة والزكاة، وأكل أموال الناس بالباطل، وشرب الدخان.....إلخ، ثم بطباعة هذه الورقة عشر نسخ وتوزيعها سيدخلون الجنة!.
وتجد صدى أيضًا فى قلوب غير العصاة الذين لم يتربوا على القرآن والسنة ولم يعلموا أن ديننا لا يُؤخذ من الأحلام والمنامات كما يفعله بعض المنتسبين إلى الإسلام، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم حثنا على العمل والجهاد فى طلب معالى الأمور وعدم الركون إلى الأحلام الوردية، فقال صلى الله عليه وسلم: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»(5).
وهذا النمط من التفكير يختلف تمامًا عما منهاج النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعمل ويجاهد فى الحياة الدنيا، ولم ينتظر يومًا أن يأتى الحل خارج نطاق الجهات الأربع، فكان صلى الله عليه وسلم يجاهد بنفسه في الغزوات، ويأمر أصحابه بالاستعداد الكامل كما حدث فى بدر يوم التقى الجمعان، فكان صلى الله عليه وسلم يضرب أروع الأمثلة فى الجهاد والصبر على قتال المشركين.
وفي أُحُدٍ كاد أن يُقتل لولا عناية الله به، ولكنه لم يقف مكتوف الأيدى ويقول (إن للدين ربًّا يحميه)، بل قال: للدين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
وفى الخندق حفر بنفسه الشريفة مع أصحابه ولم ينتظر حل السماء بل حمل على عاتقه التراب، وجاع واشتد جوعه؛ حتى وضع على بطنه الشريفة حجرين، كل هذا وهو يُعلِّم أصحابه العقيدة الصحيحة فى الدفاع عن الدين بالنفس والمال دون أن يقول أحد منهم (للدين رب يحميه) بل كان قولهم: لتكن إحدى الحسنيين؛ إما النصر أو الشهادة.
بهذه العقيدة الحية فتحوا الدنيا وخضعت لهم الأرض، أما عقيدة (للبيت رب يحميه) فقد انزوت بالمسلمين فى خندق الموت، ولن ينجيهم منه إلا العودة الصحيحة لمنهج القرآن والسنة والعقيدة الصحيحة.
فيا أيها المسلمون أفيقوا من غفوتكم وثباتكم، واعلموا أن أعداءكم يسعدون بهذا النمط من التفكير والتعامل مع الأحداث أعني نمط (للبيت رب يحميه).
والله تبارك وتعالى يكره هذا الخنوع والخضوع للأعداء بل قال: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال60] فالمسلم الحقيقي من يجاهد أعداء الله باليد إِنِ استطاع وباللسان إِنِ استطاع، وبالقلب إِنْ لَمْ يستطع.
فالله الله أيها المسلمون فى عقيدتكم وفى دينكم! واعملوا بجد واجتهاد وادفعوا عنكم الخنوع والذل؛ لتحرزوا خيري الدنيا والأخرة.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أنْ ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا إنه جواد كريم.
--------------------------------------------------
(1) ليس هذا موضعه.
(2) البداية والنهاية 2/172.
(3) البداية والنهاية 2/279. وقال بعض الناس إنه اختطفها طائر وألقاها نحو أجياد.
(4) (ضعيف): رواه الترمذي 1460، ضعيف الجامع 2699، واتفق السلف على وجوب قتل الساحر وهذا قول أبى حنيفة ومالك وأحمد، ويرى الشافعي أنه يقتل إن كان كافرًا.
(5) رواه البخاري 4949، مسلم 2647، أبو داود 4694، الترمذي 3344، ابن ماجة 78، أحمد 622.
[/RIGHT]