عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 26  ]
قديم 2011-09-24, 11:04 AM
الوديعه
عضو جديد
رقم العضوية : 155795
تاريخ التسجيل : 17 - 9 - 2011
عدد المشاركات : 76

غير متواجد
 
افتراضي
بسم الله الرحمن الرحيم

مضى سائر ذلك اليوم بطيئاً ثقيلاً على آل المقدسي مشبعاً بالوجوم والدموع00
وقضوا نهارهم وجزءاً من ليلهم في خليط من الغبطة بعودة أموالهم المنهوبة وحزن ثقيل لتجدد ذكرى عائلهم المغدور،وحقد شديد على حنظلة وأصحابه الذين أجهزوا على والدهم وحاولوا سرقة ثروته0لكن الحيرة كانت مستولية عليهم تجاه غياث بن عبد المغيث، هذا الشاب الذي شارك في شقائهم طوال هذه المدة،ثم نمت في قلبه الحياة،فرد الأموال المغتصبة في قناعة وورع!

إنه لم يفر ولم يطلب العفو خانعاً بل قال في شجاعة!
إنه سيبيت الليلة في القصر، ثم يرحل من الغد إلى الثغور للجهاد في سبيل الله ، وسيذهب إلى قريته الممرة ليلتقي بوالديه ويطلب رضاءهما إن وجدهما00
فإذا كان آل المقدسي يريدون حبسه أو رفع أمره إلى الوالي في بغداد فذلك لهم وسيمضي معهم قانعاً وطائعاً غير كاره!

وتأملوا حاله وكلامه، فلم يلبثوا حتى أدركوا أنه يستحق الشكر لا العقاب00لقد حافظ على الأموال التي نمَّاها بالتجارة00 وعندما تاب إلى ربه وتنزَّه عن الحرام أرجعها إليهم كاملة!
وقد كان بإمكانه أن ينعم عليهم بالقليل إرضاءً لضميره00ولكنه آثر أن يخرج منها كلها00حتى إنه خلع جبته الفاخرة وعمامته وخاتمه00ولم يأخذ سوى ثيابه التي جاء بها إلى بغداد!

أما غياث فلم ينم تلك الليلة في القصر، بل نام عند سريع عبده السابق في لحاف رخيص00لقد أخبر سريع بكل شيء وأمره أن ينشر الخبر بين كل الموالي00ويؤكد لهم أنهم لم يعودوا ملك يمينه بل صاروا كلهم وما يرونه من الزرع والدواب والمال ملكا
لآل المقدسي0وآوى إلى فراشه تلك الليلة راضي النفس00منشرح الصدر00 يحس أنه لم تمرعليه في حياته الصاخبة ليلة أسعد من هذه الليلة!!
وقبل أن يأخذه النوم00دخل عليه شخص يحمل مصباحاً فأضاءت الحجرة بنور المصباح00

وتكلم الداخل في أدب:
-هل تأذن لي بالدخول يا سيدي؟

وعرف غياث صوت معبد فجلس في فراشه وقال باسماً:
-ادخل00فلم أعد سيداً لك ولا لغيرك0

-لقد ازدادت مكانتك عندي يا غياث بن عبد المغيث00جلس معبد ودخل معه أخوه موسى ثم أعقبهم سريع00 ودخلت أم معبد متلفعة وجلست في ركن قصي من الحجرة00

وقال غياث مداعباً:
-لقد كثر ضيوفك هذه الليلة يا سريع!

فرد معبد بجد وصدق:
-بل كلنا ضيوفك ياغياث00فأنت صاحب أفضال علينا!

وقالت أم معبد بصوت خافت:
-لقد أرجعت الحق إلى أهله 00وما جئنا إلا لنشكرك0

فقال غياث باسماً:
-لأول مرة00أرى لصاً يسرق قوماً فيشكرونه!!

وقال موسى:
-لقد كان بإمكانك يا سيدي أن تحتفظ بهذه الأموال بدون أن تخشى مطالبة أحد00لكنك انتزعتها من اللصوص وحفظتها لأهلها0

-لو استطعت إبقاءها في حوزتي لفعلت00لكني عجزت عن ذلك!!

وتحدث معبد قائلاً:
-لقد أتينا إليك هنا لنقول لك أننا قد وهبناك نصف المال الذي في الخرج00فلولاك ما عاد من هذه الأموال درهم واحد!
قالها ورفع السراج لتتبين له ملامح غياث متكدراً00

وقالت أم معبد:
-لقد وهبناك هذا بنفوس رضيًّة0

فأجاب غياث بصوت عميق ووجه مبتئس:
-لا أريد شيئاً0

فقال معبد:
-إذا كان إرضاؤنا يهمك فخذ المال!

-لا أريد شيئاً0

فقال بتصميم:
-إذا أبيت00فستأخذ الربع0

-لا أريد شيئاً من هذا البتة!

وهتفت أم معبد من ركنها:
-إذاً فلتأخذ أرض القمح00وتكون جاراً لنا فلن نجد خيراًمنك0فلم يزد غياث على أن قال كلمته العنيدة!!

وتحدث موسى مجرباً حظّه:
-إذاً فخذ من المال ما يكفيك لإقامة تجارة وخُذ من العبيد ما شئت ليكونوا لك0

-هذه مكرمة منكم00لكنني لن آخذ شيئاً!

فقال موسى بما يشبه الغضب:
-لابد من ذلك00ولوكنت كارهاً!

فرد غياث بحدة:
-قلت أنني لا أريد شيئاً من المال00أريد أن أمضي إن لم تكن لكم حاجة بي0واحترموا إرادته فصمتواطويلاً00

وخرجت أم معبد وتبعها ابنها موسى00وقال غياث لمعبد بدون أن ينظرإليه:
-اجعلوني في حلٍ مما أكلت من أموالكم0

-أنت في حل ياغياث00وسنظل نذكركما حيينا0

-هذا معروف تسديه لي فما عدت أحمل هماً إلا أن أموت مخفاً سالماً مماللناس0

-بقي لي حاجة عندك يا غياث أرجو أن تقضيها؟

-ما هي؟أن تترك هذاالمكان الضيق وتذهب لتنام في فراشك الذي كنت تنام فيه بالقصر0

-القصر!!لم يعد ليحقٌ في القصر!

-أنا صاحب القصر00 وقد أذنت لك00

-هذا الفراش أحب إليّ00

-أريدك أن تجعل القصر منطلقك، وأنت تترك هذه الأماكن مثلما كان مؤملك عندما جئت إليها00فلا تحرمني فرصة إكرامك ولو بالمبيت0

-لك ذلك00ولكن لا تطلب مني شيئاً غيره0وحمل غياث ثيابه،ومضى إلى القصر يتبعه معبد وسريع

0وعندما دخلا القصر المضاء ببعض السرج00اتجه غياث إلى غرفته وودعه معبد وخرج لكنه توقف عندما اعترضته امرأة وجثت عند ركبته متوسلة:
-أرجوك يامولاي00دعني أذهب معه00

فقال معبد بيأس:
-لقد أبى أن يأخذ منا شيئاً يا عطر!

-إنه عاجز عن المال فلو وهبتني له لقبل منك0وقضم الشاب شفته السفلى وبدأ متردداً ولمحت عطر الكدر في وجهه فعلمت أنه يريد بقاءها فلم تيأس وقالت:
-إذا تركتني له فتلك شهامة منك00سأظلأشكرك عليها0

-إذا رضي أن تذهبي معه فأنت له0

-كلمه يا مولاي علَّه يستجيبلك

رجع معبد إلى حجرة غياث وتبعته عطر وبقيت قريباً من الباب وابتدر معبدالقول:
-ياسيدي00لقد جاءتني00

وقاطعه غياث:
-عطر00أليس كذلك؟

-نعم00لقد رجتني أن أهبها لك وأنا موافق0

-إنها فتاة كريمة ومهذبة0

-ما كنت لأرغب عنها00لكنها اختارتك!

-ولا أدري لماذا؟! لكني أتمنى أن تجد راحتهاعندك0

-إذاً فأنت ترفضها؟

-أنا لم تعد بي حاجة إلى شيء من متاع الدنيا فقد وجدت ما أسعدني واكتفيت به0

-أنت تضيق على نفسك بهذا!

-بل لَمْ تذق نفسي السعة إلا اليوم00 فقد كنت مسجوناً ثم وجدت حريتي ولا رغبة بي في السجن ثانية!

-ستكسر قلبها بهذا الرفض!

-قل لها أنني عازف عن الدنيا00وكل أمنيتي طعنة أو سهم يغفر الله به خطيئتي0

-لقد ألحت عليَّ في الطلب؟!

-لو كنت أنوي الاستقرار لفكرت في شأنها00غير أني لا أشتهي سوى الرحيل0

-ستحزن كثيراً00

-بل ستنسى عاجلاً فهي مازالت صغيرة0وسكت الرجلان000وتناهى إلى سمعهما صوت عطر وهي تدلف إلى داخل الدار مسرعة باكية فأحنى غياث رأسه في أسى وصمت بينما استأذن معبدوانصرف0