السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
فسبح غياث إلى موضع آخر00وجدف سعيد خلفه وهو ممسكٌ بالحبل حتى لا يهرب غريمه00 وبدأ البحث من جديد00
ومضت مدة و غياث يغوص إلى القاع ويمسحه بيديه ورجليه،مثيراً سحاباً من الطين الراكد يزيد من ظلمة القاع وقتامته00ثم يصعد ليلتقط أنفاسه،واعتاد جسمه برودة الماء مع أن أسنانه كانت تصطك تحت وطأة البرد والتحفز00 ثم انتقلوا إلى موضع أخر دون أن يجدوا شيئاً00 ثم أصبحوا ينتقلون إلى مواضع عديدة من النهر00 وكانت اللهفة بادية على ملامح الاثنين00وبَانَ الإعياءُ على غياث00وبارتفاع الشمس بدأ يجد بعض الصناديق والشِباك والحبال التي قذف بها عندماكان برفقة مروان،فأشرق الأمل في نفسه وعلم أنه أصبح قريباً من بغيته00
وأخيراً لمست يداه شيئاً صلباً،فتحسسه وعرف فيه خرج الذهب00وكان الطين يكاد يطمره00فحاول رفعه فلم يستطع بسبب المياه00فصعد إلى السطح وهتف لسعيد متصاعد الأنفاس:
-لقدوجدته00ولكنني عجزت عن رفعه لأنه ثقيل والمياه ترفعني!
فقال سعيد بصبر فارغ:
-حل الحبل من وسطك واربطه في الخرج0وشرع غياث في ذلك لكن سعيداً صاح به وقد أدركه الحذر:
-كلا00انتظر00اربط هذا الحبل0وقذف إليه بحبل آخر ربط طرفه في القارب00بينما تناول غياث الطرف الثاني منه،وغاص به،وربطه في صرة الذهب الثقيلة ثم صعد إلى السطح وتعمد هذه المرة أن يكون قريباً من القارب، ولم يلحظ سعيد ذلك بسبب نشوته وهو يجذب الذهب من أسفل النهر0لقد اعتزم غياث أن يهز القارب لعل سعيدا ًيسقط أو يقبل إليه فيجره إليه ثم يقتتلان في الماء00كانت تلك محاولة أخيرة للنجاة00استخرج سعيد الأموال الغارقة بفرحة طاغية وركع فوقها يزيل عنها بعض الطحالب العالقة،ويحاول فتحها مذهولاً عن خصمه الذي غاص وتسلل تحت الماء حتى صارإلى الجهة الثانية من القارب بحيث لا يراه سعيد وبحذر أمسك حافة القارب بيديه وثبت رجليه على جانبه ثم هزَّه فجأة وبعنف فاستقام سعيد واقفاً و غياث لا يكف عن التأرجح بالقارب وتماسك سعيد حتى لا يقع00وكما توقع غياث فقد أقبل عليه سعيد وقبل أن تصل يده إلى جراب خنجره التقط غياث طرف ثوبه وجرَّه بشدة إلى الماء تمهيداً للعراك00صرخ سعيد صرخة وحشية أفزعت غياث00وجعل يتخبط في المياه بعنف وعشوائية00وبخفة تعلق غياث بالقارب وصعد إليه00كانت نتيجة محاولته تلك ناجحة أكثر مما توقع!!
فتمتم متعجباً:
-إنه لا يجيد السباحة!!
وأعمل يديه في حل الحبل الغليظ المربوط حول وسطه،أما عينيه فكانتا مثبتتين على سعيد الذي كان يطفوا و يغوص ويصرخ مستغيثاً00منادياً غياث بأنه لا يعرف كيف يسبح!!
ثم كلت يداه وتحول صراخه المستغيث إلى غرغرة خافته حتى اجتذبته الأعماق القاتمة بلا رحمة!!
فكر غياث سريعاً00 وبعدتردد قصير قذف بنفسه إلى الماء قابضاً طرف الحبل00وتحت الماء جعل يعوم باحثاً عن سعيد كما كان يبحث عن الخرج ولم تطل المدة حتى وجده مستلقياً على قاع النهر مثل النائم فربط الحبل حوله00 ثم صعد إلى القارب واجتذبه إلى الأعلى، ورفعه إلى القارب وتفقده قليلاً ثم قال متمتماً:
-لقد وصلت إليه متأخراً!
وجعل يتأمله في نكدعظيم00 وجدف إلى الشاطيء00ثم سحب الجثة إلى الرمال الدافئة وهو يقول بخفوت:
-سيأتي إليه من يدفنه0ثم صعد إلى القارب وجعل يجدف ناحيةبغداد00ساهماً00 ينظر في البعيد00حيث الأفق الصافي00مهموماً00يتأمل الطيور الطافحةفي السماء ويحسدها على الحرية!
لقد أحس في هذه اللحظة أنه مسجون00مقيد00مربوط إلى رغباته وشهواته كالبهيمة التي تعد للذبح!!
ظل يجدف ولم يُلقِ نظرة واحدة إلى الأموال التي تقبع تحت قدميه00لقد أحب الدين والاستقامة ووجد سلوته في الصلاة00لكنه يشتهي المال والمجد00واليوم أسمعه موت سعيد نداء العالم الأخر الذي سينتقل إليه يوماً ما00وذكره بالحقيقة التي عجز عن الفرار منها00حاول استرداد عقله الشارد00 لكن بصره ظل عالقاً بالأفق البعيد00وذهنه سجين المشهد المفزع00غرق سعيد00وهو يتشبث ببقايا الحياة00كيف تدفقت المياه بسهولة إلى جوف ذلك الوحش الكاسر00وكيف دوى صراخه المتغرر بالماء وهو يكافح من أجل نسمة هواء00لم يكن ذلك أول مصرع يراه00 لقد رأى القتال العنيف في بيت الطين وساهم فيه بنصيب كبير00لكن موت سعيد كان موقوتاً00 جاء وقد تغلب عليه هاجس الموت والرحيل إلى الدار الآخرة!
فرأى عياناً هوان الدنيا واحتقارها00ورأى سطوة المنون كيف أنهت جبروتاً عريضاً في لحظات00وخاف00 و ازداد خوفه من هبوط الليل00وتمنى لو كان شرف الدين بجانبه يقرأ عليه من القرآن ويعظه ويذكره بالآخرة00شرف الدين ربان سفينته التي انتشلها من قبضةالأمواج00 والذي كان ينهاه عن الدنيا والفساد والخمر ويذكره بأهوال الآخرة00لو يراه الآن وقد اكتسحت ذكرى الموت والرحيل تفكيره00وضجت بها نفسه المكلومة! كم يحس الآن بظمأ شديد إلى الموعظة والآيات والصلاة0وجعلته هذه الخواطر يجدف بسرعة في لهفةإلى الوصول!
عندما وصل إلى مزرعته الكبيرة كان الليل قد أوغل في المسير00فألقى أول نظرة له على الذهب ثم حمله وقفز من القارب00كان مبتلاً00مصك الأسنان00منتفض الجسد من شدة البرد00كان البستان في سكون تام00 والجميع قد أووا إلى مساكنهم00واجتاز الباحة المؤدية إلى القصر يكاد يسقط من الإعياء وقبل أن يدخل إلى القصر توقف والتفت إلى بيت أولاد المقدسي00 كان المسكن الصغير مضاء ورغم بعدالمسافة إلا أنه أحس أنه يقف على عتبته00 وتدلت شفته السفلة لذلك وفاضت عيناه بالدموع 00وذلك آخر ما يذكره!
ووجده بعض الخدم ملقى عند الباب فحملوه إلى فراشه ليمكث يومين كاملين شوته الحمى فيهما شيَّاً00لم يكن يشعر بما حوله،فقد تضافرت المياه والبرد وفترة التحول والتغّير التي يمر بها على إنزال الحمى به، وهب سكان القصر والبستان وعلى رأسهم سريع ومعبد وعطر على العناية بسيدهم والإحاطة به00لم يقف00بل كان يهذي بالكثير مما تضج به نفسه00 وكانت تفلت منه كلمات لم يفهم المحيطون به منها شيئاً00كان يذكر اسم سعيد وبيت الطين00وخرج الذهب00 وقاع النهر!!
وأشد ماأثار استغراب معبد أنه تلفظ باسمه واسم حنظلة!
كان يطلب الدفء والأغطية، ورغم كثرةما وضع فوقه إلا أنه ظل يرتعش وبعد غروب شمس اليوم الثاني استيقظ وقد زاولته الحمى00 ولم يكن بالحجرة أحد و كانت العتمة تمنعه من رؤية الأشياء00 ولما ألفت عيناه الظلام،كان خرج الذهب أول شيء رآه00لم يفتح ولم يتغير فيه شيء00ورغم بياض حاضره إلاأن بقايا من قتامة الماضي أوهمته أنه مازال يعشق الثراء، ويحفل بالدنيا،فأخذ الخرج ودسَّه معه في الفراش بلهفة،وعاد إلى النوم من جديد!
نام إلى منتصف الليل00ثم استيقظ من فراشه مثخناً بالحزن00مشوش التفكير00كانت هموم الأيام الماضية تعصفبه00وقد تفجرت فيه العاطفة المكبوتة وفطرة الخير الأصيلة التي حاول رفسها والإجهازعليها تحت وطأة الثراء!!
وترجحت عنده كفة التوبة وطلب الآخرة، واجتمعت تلك الأشياءلتواجهه في عنف وتلطمه بالحقيقة00 إنه سارق ومجرم،ويجب أن يرد الحق إلى أهله ويتجرع مرارة الفقر القديم على أن ينعم بسعادة التقوى0و التهمه سؤالٌ محرق00هل هو شريرفيواصل طريقه الأسود00أم طيب متدين فيقف ويرجع؟!
ولكي يحصل على جواب استرجع ماحدث له00 لقد أنقذ مروان وقذف بنفسه في المياه لإنقاذ سعيد وأكرمه عندما كان فيأسره ولم يعمد إلى قتله00وواظب على الفرائض وترك الخمر00فهو في الأصل صالح وطيب السريرة00بل خبيث وشرير00فقد عق أبويه ، وسلب الصياد صاحب الحمار واستولى على أموال ورثة المقدسي00وتسبب في إفقارهم!
وأعياه الجواب00وتداركه الخور00 وتعثر في حطام الضلالة المتبقي00وذكرى الفاقة السوداء00فأخفى الخرج تحت فراشه، وظن أن ما يجول بنفسه خواطر عابرة، أوحاها ضعف مؤقت00فقرر القضاء على كل من تآمر ضد سعادته،وصمَّم على طرد معبد وأسرته،لأن وجودهم سبب ما يعتريه هذه الأيام00وتخيل أنه جبار00فحمل السوط مهتاجاً وخرج إلى بيت آل المقدسي ليطردهم00خرج نصف عاقل00متخففاً من الثياب00مزبداً كالجمل الهائج00 ولم يعترض طريقه سوى هواء الليل البارد الذي كان يلسع صدره العاري ويرفرف بسراويله الواسعة00وشدد قبضته على السوط تأكيداً لماسيفعل00 وعندما اقترب من البيت ألفاه مضاءً في دجى الليل00 وأصوات ساكنيه من الداخل تضحك في حبور00 وصوت سيدة المنزل تداعب أحد أطفالها في مرح00فخمد بركانه فجأة كماثار فجأة!! وخارت عزيمته00 وقهرت ثورته تلك الأصوات البريئة السعيدة التي لا تعلم عن عاصفته شيئاً!!
وأدركه تعب ثائر فسقط السوط من يده00واستند إلى جذع نخلة قريبة00وهناك وجد الجواب للسؤال الذي أحرقه00ولفت بقايا الظلام في داخله آخرأنفاسها00ظل مستنداً على جذع النخلة حتى انهدَّ مكانه في الحوض،كالجدار المهدوم وتكوم كالأنقاض00 شاعراَ بمزيج من الحزن اللذيذ00وأنه قد هرب من سجنه الذي أرهقه طويلاً، وآل إلى أفياء واسعة!وأمتعته الوحدة والليل00و زالت عن قلبه الأثقال00و أحس بجدول القناعة يتدفق لطيفاً، ويروي في فؤاده جذور سعادة جديدة00حقيقة00واحتبست فيعينيه دموع غزيرة!
وطالت جلسته في الحوض، ولم يعده إلى واقعه سوى أصابع صغيرة00باردة وناعمة00لامست كتفه من الخلف كان ذلك أكبر أطفال ذاهب المقدسي!
وفوجئ غياث به يقف خلفه ويثرثر في حبور:
-أنت الشيخ غياث!؟
لقد رأيتك في شق الباب وكان الباب مغلقاً00أمي لا تدعنا نخرج في الليل00لكني قفزت من فوق الجدار!
ثم سكت وبدون أن ينتظر تعليقاً من غياث قال:
-أمي ومعبد وموسى يحبونك ويقولون أنك رجل تقي وكريم وتعطينا من الثمار والطعام00
لقد كان عندنا مزرعة مثل هذه ولكن أبي باعها0وقال غياث:
-ما اسمك؟
-ميمون00
-لماذا خرجت يا ميمون في هذاالليل00؟ألا تخاف من البرد؟!
-خرجت عندما رأيتك00لم يرك إلا أنا!
ابتسم غياث ابتسامة حزينة،وقبض على الصبي وضم جسمه المهزول إلى صدره العاري وقال له:
-سارع إلى البيت وإلا أمرضك البرد0ومضى الصبي متسلقاً الجدار الذي هبط منه سعيدٌ مغتبطاً بهذا اللقاء القصير مع السيد العظيم مالك هذه البساتين0وتمتم غياث:
-ليتني أموت!!
ثم قفل راجعاً وقد أطلق العنان لدموعه المحبوســـة تنهمر كـ المطر