عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 15  ]
قديم 2011-09-22, 2:40 PM
الوديعه
عضو جديد
رقم العضوية : 155795
تاريخ التسجيل : 17 - 9 - 2011
عدد المشاركات : 76

غير متواجد
 
افتراضي
بسم الله الرحمن الرحيم
ومن جانبه أعجب معبد بهدوء غياث ورزانته وتجنبه الثرثرة00ولم يضجره سوى عزلته الصارمة ووحدته القاسية التي لم يشهد لها مثيلاً00فهو لا يتعدى بستانه وقصره ولا يهتم بغير خيوله وتدليلها أو التجوال مع جاريته هنا وهناك00وأضجره تحفظه عن الكلام عن نفسه00فهو لا يعرف عنه إلا اسمه،وأنه مالك هذه الضياع وحاول الحصول على شيء من سيرته من العبيد الخدم ومن التجار في بغداد،فلم يجد عندهم أكثر مما عنده! فاقتنع أن صاحبه يطوي نفسه على كثير من الأحزان والغموض00فترك الإلحاح لمعرفة ذلك،وتتبع سيرة غياث خصوصاً عندما نهره ذات يوم بعنف وخشونة وعلى غير عادته وقد رآه يقترب من البيت الصغير المهجور المحاط بسور من الحصى0

وبطبيعة متسامحة نسي معبد هذا الجفاء من غياث ولم تتأثر علاقته به00إلى أن حدث ما عصف بهذه الألفة بينهما عصفاً وأضاف إلى أحزان غياث الهادئة أحزاناً جديدة ثائرة وعنيفة0

ففي مجلسه المعتاد أخر العصر جلس غياث يتناول الفاكهة، ولم يلبث حتى جاءه معبد وفي يده دفاتر البيع وقال بأسلوبه المهذب :
-أتأذن لي في الجلوس؟

فقال غياث:
-نعم تفضل00ماهذا الذي بيدك؟

-دفاتر السوق00 جئت لنراجعها معاً0

فقال غياث مداعباً:
ظننتها أوراق علم أو شعر!

-لم يترك لي طلب المعيشة وقتاً لقول الشعر0

فقال غياث وقد تذكر موهبة الشعر التي ماتت عنده منذ سنوات:
-وهل كنت تقول شعراً يا معبد؟

-أبيات قليلة تعد على الأصابع0

-ولماذا لم تواظب على قوله00فالشعر أداة ليخفف المرء عن قلبه؟

-لقد كنت أقوله في صباي، ولما بلغت العشرين من عمري تركته00 ثم قلت قصيدة صغيرة قبل سنة ولم أكتب بعدها شيئاً0

فابتسم غياث بسرور وقال:
-هل تحفظ من القصيدة شيئا؟

-أذكر منها مطلعها:
أسامر النجم والأقوام قد رقدوا *أبيت هماً وحولي الناس قد سعدوا
بكيت من كمدٍ من هول فاجعة *سكبت فيه دموعا مالها عدد
أبكي لفقد أبي من بعد رحلته *حتى أرى العين حزناً زارها الرمد

-إنها جميلة إن كانت كلها كهذا المطلع!

-لقد كتبتها عندما قتل والدي رحمه الله 0

-قتل00؟
لقد قلت لي أن والدك توفي فظننتها ميتةً في الفراش؟!

-لا00لقد قتل غدراً00 قتله اللصوص قبل عام ونصف!

-وكيف قتل؟!

-قتلوه عنوةً00فقد كان مسافراً إلى فلسطين بقافلة صغيرة، ومعه أموال طائلة وحرس كثير، ففاجأه لصوص قبعوا له ولرجاله على مسافة نصف نهار من بغداد وقاتلهم لكن اللصوص استطاعوا قتل رجاله وتعقب من فر منهم حتى أجهزوا عليهم جميعاً ونهبوا المال!

-وهل علم الناس بذلك00وهل عرفوا أحداً من اللصوص؟

-نعم00 فقد علمت أن أعرابياً أخبر الناس0فقد كان قريباً من موقع القتال، وقد جاء موافقة ليجد عشرات القتلى وآثار القتال،فأسرع إلى بغداد وأخبر الوالي والشرطة، لكن أحداً لم يعرف من قام بهذه الجريمة!

-هل كان المال كثيراً؟

-لم يخبر والدي أحداً برحلته هذه ولا بمقدار ماله حتى الرجال الذين معه00لكنه قال لنا أنه سيبيع كل ما يملك من عقار وضياع وأنه سيحمل ماله إلى فلسطين بلادنا الأصلية0

-وأين كنتم؟

-كنا قد سبقناه قبل مقتله إلى فلسطين00 وشاء الله ألا نحمل معنا إلا القليل من المال0

واستقامت شعرات من غياث بن عبد المغيث وتصبب العرق غزيراً من جسمه واعتراه الوجوم،ولاحظ ذلك معبد وقال بأسى:
-لقد أثقلت عليك وعلى نفسي يا سيدي بهذه القصة الحزينة0

فقال غياث محاولاً استدراجه للكلام:
-كلا00فقد سمعت بمقتل رجل بالغ الثراء من أهل بغداد اسمه ذاهب المقدسي00وقصته شبيهة بقصة مقتل والدك غاية الشبه!!

-ذلك أبي00ذاهب المقدسي هو أبي وقد تناقل أهل الأقطار قصته لغرابتها وكثرة من قتل فيها من الرجال!

-لكنك ذكرت لي أن اسمك معبد بن عيسى؟!

-نعم00 فقد اعتادت جماعتنا أن ينسب الرجل إلى جده خصوصاً عندما يكون ذائع الصيت00 وبهذا يكون اسمي معبد بن ذاهب بن عيسى المقدسي0

فقال غياث مناوراً لمعرفة كامل القصة:
-لقد ظننت والدك من أهل بغداد00 فكيف جاء إليها؟





-لقد قدم والدي إلى بغداد تاجراً قبل ستة عشر عاماً00وكنت صغيراً حينها00وعمل بجد في تجارات كثيرة منها القماش00 وصارت له قوافل تروح وتجيء ببضائعه من فارس والشام وغيرها00 وقادته التجارة إلى أكابر الناس وتوصل إلى الخليفة وصار من جلسائه00 وكان مقبولاً حسن الحديث فقربه الخليفة وأدناه ،وصرت أجلس في دكانه عندما يكون غائباً وتعلمت الحساب والبيع00وأحببت بغداد حباً فاق حبي لبلادي فلسطين0وصار الخليفة يستعمل والدي في بعض شؤونه،ويغدق عليه المكافآت فأثرى،وتحصلت له عنده بعض الضياع والدور والعقار0ولكن بعض جلساء الخليفة حسدوا والدي على حظوته ومكانه من الخليفة وظنوا أنه سيجعله والياً على بعض المدن مما يطمحون هم إليه، فسعوا بالوشاية والمكيدة بينه وبين الخليفة حتى جفاه وأغلظ له القول وطرده من مجلسه، فتأثر والدي لذلك غاية التأثر، وعاف بغداد والعراق كله وعزم على الانتقال إلى فلسطين بأمواله وأسرته00 ولقد حزنت لذلك كثيراً0 وحَمَلنا مع بعض المتاع والمال إلى فلسطين وطفق يبيع ضياعه وعقاره00ووصلنا إلى فلسطين و اكترينا بيتاً قريباً من أخوالي ومكثنا بضعة أشهر،وجاءنا رسول من والدي برقعة مختومة أخبرنا فيها أنه باع ضياعه وكل عقاره و بضاعاته واشترى بها ذهباً وأنه سيحمله على بعض الجمال وسيحرسهم فرسان استأجرهم لذلك، وأنه سيخرج متخفياً وسيصل إلينا في أقل من شهر،وأخبرنا ألا نعلم أحداً بمسيره0ومكثنا بعد ذلك شهرين، وساورنا القلق وطفقت أتلقى كل قادم من بغداد فلم أسمع عن والدي شيئاً، حتى جاء ذلك اليوم الذي قدم فيه أحد أقربائنا من بغداد ليخبرنا بمقتل والدي وسرقة أمواله، وقتل عبيده وكل رجاله على يد جماعة من الفتاك، وقال لنا أنه تولى بنفسه غسل والدي ودفنه0

ولست في حاجة إلى أن أخبرك أي حزن وأسى حل بنا وكيف انقلبنا في شهر واحد من الغنى الواسع والثراء الطائل إلى حال من الفقر والمسكنة؟ورجعت أنا إلى بغداد مع أهلي الذين ما وسعهم إلا الإتيان معي فلا عائل لهم غيري0واستفدت من معرفتي بأمور البيع فعملت عند صاحب أقمشة0

-وهل تعرف أحداً ممن قتل والدك أو سرقه؟

-لو كنت أعرف منهم أحداً لقتلته قتلاً!

قالها بحماس ظاهر00مما دعا غياث إلى أن يسأل بمكر:
-وهل تجيد القتال؟

-لقد تدربت على المبارزة0

-وكيف علم اللصوص بخروج والدك وأنه يحمل ذهباً؟!

-هذا ما يحيرني!!وإن كنت أشك في صاحب لوالدي!

-وما الذي يحملك على الشك فيه؟

-لأنه كان مقرباً من والدي00 ولم يكن يخفي عنه شيئاً من أسراره00وكنت أنا أراه شريراً00وكلما حذرت أبي منه سخر مني،وحذرني بدوره من سوء الظن!

-ولماذا كنت تراه شريراً؟

-لأن والدي عرفه في مجلس الخليفة00 وحصلت بينهما المزاورة بعد ذلك00 وقد سمعته أكثر من مرة يذكر والدي وما فيه من النعيم على سبيل الاستكثار والحسد0وقد استنقص والدي بحضرة الخليفة وهو غائب، وكادت الفرقة تحل بينهما لولا تسامح والدي وحسن ظنه0

-وسكت قليلاً ثم قال:
ومما زادني شكاً فيه أنه قبل رحيلنا بأسبوع كنت عائداً من الدكان فرأيته في درب ضيق قذر مشهور بكثرة الفتاك واللصوص،يخاطب ثلاثة رجال كريهي المنظر، وسمعته يذكر اسم والدي ويتحدث بصوت لم أسمعه لكني التقطت منه كلمات مثل:الذهب00الجمال00السيوف00واختبأت لعلي أسمع المزيد ولكن الرجال تفرقوا!

-وهل أخبرت والدك بذلك؟

-نعم00فلم يزد على أن أمرني بالذهاب إلى النوم!

وسأل غياث سؤالاً يعرف جوابه:
-وما اسم هذا الرجل؟

-اسمه كريه كصاحبه!!اسمه حنظلة0

-ألم تحاول تتبعه بعد مقتل والدك وعودتك من فلسطين؟

-فعلت00وسألت عنه وقيل لي إنه في السجن0

فسأل غياث بلهفة:
-ولماذا سجن؟؟

-لا أدري!

وطال الصمت بينهما، ورأى معبد بن ذاهب جبين غياث راشحاً بالعرق فقال:
-لنترك مامضى00 ولننظر إلى دفاترنا0

فقال غياث بصوت كالحشرجة:
-لا00 ليس اليوم يا معبد بن ذاهب00 أحس بالتعب0

وقام معبد مستأذناً بالانصراف ومضى تاركاً غياث يكاد يخترق الأرض بنظراته وبعد مدة طويلة خلع عمامته عن رأسه متخففاً ومسح شعره إلى الوراء00 ورغم اعتدال الهواء وبرودته إلا أن العرق عاد يتدفق على ظهره ويبل ثيابه، فقد استعاد هذه القصة التي تثقل قلبه بالوجع00 واعتراه شعور غريب00 شعور بالخوف00من شيء قادم00 لم يكن خائفاً من حنظلة00 ولا من معبد00 ولا من أي من البشر00كان خائفاً من شيء هائل يتململ بداخله