عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 14  ]
قديم 2011-09-22, 2:39 PM
الوديعه
عضو جديد
رقم العضوية : 155795
تاريخ التسجيل : 17 - 9 - 2011
عدد المشاركات : 76

غير متواجد
 
افتراضي
بسم الله الرحمن الرحيم

رحل شرف الدين إلى بغداد بعد انتهاء مهمته وأتبعه غياث بالجمال التي تحمل نصيبه من القمح0

رحل00 وبقي أثره واضحاً جلياً على غياث فقد انتهج في حياته أسلوباً جديداً فصار لا يضيع صلاته ولا يترك فروضه00وامتنع عن شرب الخمور00ولم يعد يحمل السوط إرهاباً وهو يتجول بين الحقول!

وأمر عماله أن يهريقوا قدور النبيذ00 وباستقامته انزاح عنه كثير مما يثقل قلبه00وصار يجد في الصلاة ملاذاً يختبئ فيه عن أحزانه و قتامة أيامه0

ولكنه ظل متشبثاً بحب المال00 يرى أنه سيكون منقوص السعادة بدون ثروة، ولهذا تولَّد لديه صراع00واشتعلت الحيرة في نفسه تجاه هذه الأموال التي يستمتع بها،وهو يعلم أنها ليست له00وحاول إقناع نفسه بأحقيته في ذلك وبجدوى عمله0

وكأنما كان القلق والعذاب له بالمرصاد، فقد جاءه سريع وأخبره بوجود شاب أمين ونشيط من أهل بغداد على جانب كبير من العلم بالحساب وشؤون البيع00
وقال سريع:
-إنه فقير00وقد عرضت عليه أن يعمل لدينا في البيع والتجارة والإشراف على غلات البستان وبيع القمح0

فسأل غياث بلا مبالاة:
-وهل أخبرته بوجوب الإقامة في البستان؟

-نعم ياسيدي00 وقد وافق على الفور لأنه لا يكاد يجد أجرة المنزل الذي يسكن فيه ببغداد0
بعد أيام حضر القَّيم الجديد ليأخذ مكان شرف الدين في البيت، وليقوم بإدارة البستان والزراعة ويذهب بالغلات إلى أسواق بغداد0

مضت عشرة أيام على وصوله00 وفي عدة مرات كان سريع يأتي إلى غياث ويسأله إن كان يرغب في مقابلة الشاب الذي جاء يعمل عنده00فكان غياث يصرفه ويقول:
-لا00 ليس الآن دعه يتعرف على أعمال البستان وصنوف الزرع0

وكان يسأل سريعاً دائماً عن أحوال سعيد المسجون فيخبره أنه بخير وأنه على حاله من الغضب المستديم والتهديد والشتائم فيطمئن غياث لذلك،ويوصي عبده بالمزيد من العناية به0

وطوال هذه المدة كان غياث منصرفاً إلى شؤونه الخاصة مشغولاً بهمومه المتزايدة00ومكابدة نفسه الثائرة00 ولم يكن يفارق القصر إلا حين يقوم بجولته الخارجية وكانت تصحبه عطر في جولاته وكان في ذلك تسلية يومية له00وترك التجوال في الحقول والبستان ونسيها ونسي القَّيم الجديد00ولأول مرة تمنى أن يرزق بغلام يملأ عليه وحدته وحياته بالبهجة0

وذات عصر كان جالساً تحت ظلال الأشجار الوارفة القريبة من القصر، فأقبل إليه رجلٌ يشق عرائش العنب، وما أن وصل إلى بساط غياث حتى سلم بخجل ثم قال:
-أنا القَّيم الجديد على البستان ياسيدي00 هل تأذن لي بالجلوس ؟

فقال غياث:
-لقد توقعت ذلك عندما أقبلت علي0
ورحب به ودعاه للجلوس0

كان الشاب كما وصفه سريع00مهذباً00بائن الحيوية00عليه شارات الجد00وكان طويلاً مضرج الخدين بالصحة00 له هيئة توحي بفقره0

وقال الشاب في بشاشة:
-قيل لي إنك لا ترغب في مقابلة أحد00لكن تجرأت بالقدوم إليك00 فقاطعه غياث في وداعة:

-كان يجب أن أراك ساعة قدومك00لكن حال دون ذلك أعمال أخرى0

-لقد اضطررت لاقتحام مجلسك لأن أشغال الزرع والبضاعة والسوق تتطلب ذلك0

-كيف وجدت الدار؟لقد أمرت سريعاً بتجهيزها قبل وصولك؟

-إنها خير مما كنت فيه ببغداد00وهي إلى ذلك جديدة البناء0

-لم يمض على بنائها سوى عام!
و
ابتسم الشاب وهو يقول:
-لقد وسعتنا على كثرتنا!

-وهل أعجبت أسرتك؟

-يجب أن تعجبهم فقد كانوا في أضيق منها في بغداد!

-وهل زوجتك معك يا00أنا لم أعرف اسمك إلى الآن؟

-معبد بن عيسى0

-هل تزوجت يا معبد؟

-لقد أشغلني والدي بالبيع والعمل وكنت أعمد إلى تأجيل الزواج بسبب ذلك0

-إذاً كيف تركت والدك وحيداً وجئت بأسرتك إلى هنا؟

-لقد توفي والدي وترك لي هذه الأسرة الكبيرة0

وأطرق إلى الأرض محزوناً00فقال غياث يلاطفه:
-يجب أن تزيد في حجرات البيت00ألا يوجد من يساعدك على طلب المعيشة؟

-هناك أخ لي في السابعة عشرة00 وقد جاء معي بالإضافة إلى أخواتي فقد علمتهن أمي صناعة السلال والحصر من جريد النخل،فإذا اجتمع لنا شيء من ذلك يذهب أخي موسى لبيعه في بغداد0

-إذاً فقد عانيت من الفقر كثيراً0

ابتسم الشاب وقال:
-لا00 أنا خير ممن هم دوني00 لقد كنا نتحصل على شيء من اللحم إذا أعطاني من أعمل في دكانه أجرتي كل شهر00 أما البر فقد كنا نأكله كل أسبوع00 وسائر الأيام نكتفي بخبز الشعير00وملابسنا وباقي حوائجنا كنا نشتريها إذا باع أخي من السلال والحصر00وكان بعض من يعرفون حالنا يأتون إلينا بدراهم أو طعام لكن أمي كانت ذات جلد وصبر ،فترفض ذلك أنفة،وربما أخذت أنا المال لأدفع أجرة الدار بدون علم أمي!

وأحنى غياث رأسه إلى الأرض، وقد اكتسحه شعور مفاجئ بالحقارة،فازدرى نفسه ولم يتكلم حتى نهضا لتفقد شؤون البستان والتجول في أنحائه0

وفي تجوالهم مروا على بيت القَّيم الذي كان قريباً من النخيل00فخرج الصغار لمشاهدة صاحب البستان وتوقف غياث يتأملهم00 كانوا ثلاثة صبيان أكبرهم في التاسعة،وثلاث بنات دون الثالثة عشرة00كانت شعورهم منفوشة وثيابهم قذرة وكانوا يتضاحكون ويتخاصمون في حبور على تمرٍ التقطوه من أحواض النخيل، فرحين بالأفياء الواسعة التي أنستهم أزقة بغداد الضيقة00وقد جنحوا إلى الصمت لدى وقوف سيد البستان كانوا على شيء من الملاحة والنشاط،لولا يد الفقر التي طالتهم وعبثت بنظراتهم0

والتفت غياث إلى معبد ليقول شيئاً فوجده مطرقاً على الأرض00 خجلاً من هيئة أخوته00 فلزم الصمت وآثر الانصراف رفقاً بالشاب!

وقد أثبت معبد بن عيسى جدارته في العمل واستولى على إعجاب غياث بن عبد المغيث في أقل من شهر بإلمامه بالسوق ودقته في الحساب، وعلى صغر سنه فقد كانت سمعته طيبة في أسواق بغداد0

وقد فوض إليه غياث بكل شيء في شؤون الزرع والغلات والمال، وزاد في أجرته وبعد شهر آخر كان قد بعث في البستان دماء جديدة،فزاد في الزروع وأصلح الحوائط واقترح على غياث تسيير قافلة لبيع بعض الغلات في القرى القريبة من بغداد، ونفذ هذا الاقتراح بقافلة صغيرة أرسلها مع أخيه موسى فعادت بربح طيب0

وزال كثير من الكلفة بين غياث ومعبد، وأصبح الحديث بينهما يتعدى شؤون التجارة،وما زاد من ثقة غياث بمعبد كفاحه وقيامه على تربية أخوانه الصغار والمثابرة على تعليمهم القراءة والكتابة وتدريبهم على الأخلاق الحميدة0