عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 13  ]
قديم 2011-09-22, 2:33 PM
الوديعه
عضو جديد
رقم العضوية : 155795
تاريخ التسجيل : 17 - 9 - 2011
عدد المشاركات : 76

غير متواجد
 
افتراضي
بسم الله الرحمن الرحيم

ذات مساء00
أوغل الليل في المسير00 وجلس غياث بن عبد المغيث في مجلسه الواقع خارج القصر00وأوقد ناراً وجعل يقلب كفيه فوقها ملتذاً بدفء،ويتأمل تراقص لهيبها00كان كل شيء ساكن والعاملون في البستان قد أووا إلى مساكنهم00ولم يعكر صفو ليلته تلك سوى أحزانه التي تجددت وفجر الشيخ شرف الدين سدودها،فقد زعزع قناعته بالهناء المحيط به وفضح كآبته السابقة ونشرها كجيفة كان التراب يواريها،فأخرجت من التراب وانتشرت رائحتها عفنة تعم الأرجاء!

إذاً فهو غير سعيد!00فلوكان سعيداً حقاً فلماذا اغتمَّ لجراحه القديمة التي نكأها شرف الدين00ولماذا أصبح يساهر الليل وحيداً محزوناً!؟
وقذف في النار بعض الحطب00

لا00إنه غير سعيد00لقد كان يوهم نفسه بالسعادة! ليعترف بهذه الحقيقة التي كانت تتبدى له فيغمض عينيه عنها00حقاً إنه لم يحس بسعادة سليمة من شوائب المرارة منذ أن استولى على هذه الأموال!

لقد أوجعه هذا الاكتشاف الجديد،فعاد يحاول التشبث ببقايا هنائه0وتشبث بكذب لذيذ، وآثر أن ينظر إلى الوجه الساطع في حياته،وأوهم نفسه في تلك الليلة بالبهجة ،وتكلف السرور وطرد الأحزان،فشرف الدين لا يعلم عن دواخله ولا قلبه00وحواسه لا يمكن أن تخدعه!!

ولبس ثياباً جديدة على جروح قذرة00وتمدد على الفراش الوثير متكاسلاً عن الذهاب إلى حجرته00حتى أخذه النوم0

في الصباح هزته يدٌ رقيقة فاستيقظ ناعساً00 وابتسم لجاريته التي وقفت على رأسه باسمة وقالت له:
-لقد جاءني والدي لأطلب منك أن تتحثث من جفاف القمح قبل أن يحصد ويدرس0

ونهض واغتسل وذهب برفقة جاريته متسكعاً ببطء كعادته بين الخمائل والنخيل و عرائش العنب،وهي تزف إليه روائحها الندية العابقة مع أنسام الصباح0

ولم يسر غير قليل حتى أدهشته عطر بسؤالها:
-هل تعاني من ألم يا مولاي؟

فالتفت إليها وهو يقول:
-لا00بل أحس بمزيد من العافية!

-أنت مكابر00وتستعلي على أوجاعك00 إن وجهك بائن الصفرة!! لقد لاحظت ذلك بعد قدوم شرف الدين! لقد أصبحت تجلس وحدك،وتظل ساهماً وكنت أراقبك فإذا رأيتك على هذه الحالة تركتك!

-أنت مخدوعة!

-لا00بل لقد رأيتك يوماً تبكي وحيداً فآثرت أن أمضي دون أن تراني00

-أنا أبكي؟!

-نعم00هذا ما رأيت!

-لم أعلم بذلك فكيف أبكي وأنا لا أعلم؟!

-أنا من يسأل هذا السؤال؟

لم يجبها بشيء سوى أن طمأنها بسلامته،وأكمل جولته ثم رجع،وأراد أن يتجول في الأنحاء، فأمر سريعاً بتجهيز الخيل وفوجئ به يقول هو الآخر:
-إن شاء مولاي أن يؤخر تجواله ويستريح؟

فقال مدافعاً عن نفسه:
-لكني لا أبدو متعباً؟

-أنت بادي الإرهاق يا سيدي0

وغشيته الكآبة من جديد وقد أثارته هذه الملاحظات، وتأكد له أنه يخادع نفسه ويتوهم أنه على ضفاف النهر من السعادة وهو خلاف ذلك00 لقد أصبح كمن تناول جرعة ماء ليغسل فمه فاكتشف أنه شديد العطش وهو لا يدري!

ومضى راكباً فرسه تاركاً عطر ووالدها وقد حيرهم أمره00وحيرتهم تلك التغيرات الجديدة في حياته!
خرج غياث ليتخفف من الكدر المطبق عليه00وأمضى يومين كاملين في غيبته لا يعلم أحد أين هو00ثم عاد محملاً بالمزيد من الكآبة00 ولم يجرؤ أحد على سؤاله أو محادثته بشيء،فمضى إلى حجرته وأغلقها على نفسه،ولم يخرج بعد ذلك!

وطالت مدة الحبس الذي اختاره غياث لنفسه00وكان الخدم يطرقون عليه الباب فلا يرد ولا يقبل الطعام00وحاولت عطر اقتحام عزلته فلم تقدر!واستنجدت بأبيها فلم يَلقَ جواباً00وظنَّ الجميع أنه هلك لولا بعض الأصوات المبهمة التي كانت تصدر من جوف الحجرة بين فينة وأخرى00وتثبت لهم أن سيدهم مازال على قيد الحياة0وأخيراً خطرت لسريع فكرة00مضى إلى بيت القيَّم وطرق الباب ليستنجد بشرف الدين0

وجاء شرف الدين واجتمع ببعض الخدم فأمرهم أن يبتعدوا حتى لا يثيروا حفيظة غياث00وطرق باب حجرة غياث بهدوء فلم يرد،فطرقه ثانية بإلحاح فجاء صوت غياث من الداخل ينهر الطارق ويأمره بالابتعاد،فقال شرف الدين:
-افتح ياغياث00 افتح يا بني أنا شرف الدين0وتكاثر الخدم وجاء بعضهم من الحقول لمشاهدة ما يحدث00وتراصوا في الممر المؤدي إلى الحجرة00

ثم سُمع من الداخل صوت يروح ويجيء على عجل ويحرك بعض موجودات الحجرة،ثم فتح غياث الباب محزوناً مدهوشاً ورحب بالشيخ الفلاح وبان على وجهه سرور حقيقي وقال:
-لم أكن أتوقع مجيئك إلى غرفتي!

فاختلق شرف الدين عذراً وقال:
-لقد أردت أن أودعك قبل رحيلي،فقد انتهى القمح ويجب أن أذهب0

ودخلا إلى الغرفة وأغلق غياث الباب ثم فتحه فجأة والتفت بصرامة في وجوه الخدم والعبيد الذين كانوا قد تكدسوا في الممر وارتفع بعضهم على أطراف أصابعه لمشاهدة غياث وهتف بهم:
-انصرفوا00!

ولم يغلق الباب حتى رآهم ينصرفون مسرعين في شيء من الذعر!

وكان غياث يرتدي ثيابه التي عاد بها من رحلته الغامضة00 وحذاؤه لم يخلعه طوال هذه المدَّة، حتى شكل عمامته لم يتغير00وكان ذابل النرات00 متعباً مكدور الملامح!

ومضت ساعتان كاملتان قبل أن يخرج غياث من الحجرة يتقدمه شرف الدين ولاحظت عطر أن سيدها محمر العينين00 رطب الأجفان!!