عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 12  ]
قديم 2011-09-22, 2:29 PM
الوديعه
عضو جديد
رقم العضوية : 155795
تاريخ التسجيل : 17 - 9 - 2011
عدد المشاركات : 76

غير متواجد
 
افتراضي
توقف شيخ كبير مسن على باب بستان غياث وقرأ اسم البستان "المغاث" المنحوت عليه، ثم ترجل عن بغلته الهزيلة التي يركبها00 ثم قادها بزمامها إلى الداخل وسار حتى وصل إلى القصر وربط بغلته في مربط الدواب وذهب أحد الخدم ليخبر سيده أن رجلاً يطلبه0

كان الشيخ نحيلاً و مهزولاً كالدابة التي جاء عليها00لكنه كان مهيباً وقوراً00مخضوب اللحية بالحناء00عريض الحاجبين أبيضهما00بعينين بارقتين لامعتين بالفطنة0

وخرج غياث إليه وفي يده كأس النبيذ00فأصطدمت نظراته بهيئة الشيخ، وما أن رآه حتى اعتراه الخجل ووضع الكأس جانباً00ورحب بضيفه ودعاه للجلوس على بساط كبير مفروش تحت ظلال الأشجار القريبة من القصر فجلس وقال:
-لقد ذكر لي الخادم سريع أنكم في حاجة إلى من يقوم على زراعة القمح في الأشهر القادمة0

فقال غياث وهو يشير إلى أرض القمح البعيدة التي أُعدت وحرثت:
-نعم نحن بحاجة إلى من يقوم بزراعة تلك الأرض00فلا يوجد عندنا أحد يقوم بذلك،وقد أمرت عبدي أن يستأجر فلاحاً لهذا الشأن:
-وأين صاحب البستان حتى نحدَّثه؟

-أنا صاحب البستان!

فدهش الشيخ لكون هذه الضياع الواسعة لشاب في الثامنة والعشرين وقال:
-أنا اسمي شرف الدين من بغداد وأحسن العناية بالقمح،فإن شئت عملت عندك وأخذت العُشر عند الحصاد0

-لقد قلتُ لسريع أنني أريد أن أستأجر فلاحاً بالأُجرة00يأخذ أجره إذا انتهت السقيا وقطع الماء عن الزرع!

-أنا أعمل يابني في مزارع الناس كل سنة وكنت أتفق معهم على جزء من الحصاد!
تأمل غياث الرجل فارتاحت نفسه إليه وقال محاولاً إقناعه:

-سأجزل لك الأجر فذلك خير لك00فقد يأتي الحصاد شحيحاً00

-من أجل هذا طلبت جزءاً من الحصاد فلا أريد أجراً كاملاً عن حصاد شحيح0

-لكني راضٍ وقانع بذلك!

-إذاً فلم نتفق!

وبلا مناقشة ودَّعه الشيخ وقام إلى بغلته ليذهب فقال غياث على الفور:
وافقت00وافقت00

استقرَّ شرف الدين00 فلاح القمح00في الدار التي عدت ليسكنها القيَّم00 وشرع في العمل وأظهر دراية بالزرع وأجرى الماء وتابع السقيا، وبعد مدة بدأت وريقات القمح تشق الأرض ثم تأخذ في الارتفاع تحت شمس دافئة عجلت بإنباتها0

وزار غياث شرف الدين وتكررت زياراته له00واجتذبه سمته ووقاره و هدوؤه،وأصبح يأنس له ولا يخفي عنه مودته0وتضاعفت تلك المودة عندما طفق سريع ينقل إليه أخبار شرف الدين في بغداد ويثني على سيرته00فيعرف أنه لم يكن فلاحاً فحسب بل هو على جانب من العلم والتقى والفضل00يتكسب عيشه من العمل بالزراعة عند الناس0

وكان غياث يقول لجاريته عطر أو لسريع في صراحة تامة:
-أنا أحس بالبهجة حين تقع عيني على رجل من الصالحين منذ أن كنت صبياً00لكن شرف الدين مختلفاً كثيراً،فأنا أبتهج لرؤيته وأهابه،وقد فطن إلى ذلك فأصبح ينهاني عن الخمر ويعظني و يناصحني فصرت لا أشربها في حظرته، ولا في الوقت الذي أتوقع حضوره فيه00ولا أخرج إليه إلا إذا فارقني أثرها،وليس أحدٌ يشبهني فأنا سكير منحرف، ويعمل في فلاحة أرضي طالب علم تقي!!

مضت ثلاثة شهور00 وأوشك موسم القمح على الانتهاء ،وكانت سنابل القمح رفيعة متسامقة00تتمايل مع حركات الهواء00ورائحتها زكية00 تزيد السرور في نفس غياث00 وكانت الفترة الأخيرة من العمل تحتم أن يكون الماء متدفقاًً باستمرار على جذور السنابل التي ستصبح بعد مدة قصيرة صفراء ذهبَّية لتقطف بعدما تجف تماماً0

وركضت الأيام سعيدة مبهجة في حياة غياث بن عبد المغيث،وقد زادها تواجد شرف الدين ببشاشته ورحابته أنساً0

وجاء يوم اهتزت فيه قناعة غياث بواقعه00وفقد ثقته في سعادته،وفي الحياة الرغيدة السهلة المحيطة به00
تسللت إليه شمس الحقيقة ساخنة لتحسر عنه ظلال الوهم الذي كان يأوي إليه0
وكان ذلك على يد شرف الدين!

ففي بعض جلساتهما كانا قد فرغا من شؤون الزرع، وكعادته كان شرف الدين يذكره بالآخرة والتقوى00ويعضه00وينبهه إلى الثغرات فيما يظنه سعادته00 وفي معرض حوارهما سأله شرف الدين:
-لماذا أنت حزين يا بني؟

فقال غياث باستغراب:
-أنا لستُ حزيناً00كيف رأيت أني حزين؟!

-لأنك تعاقر الخمرة باستمرار00 وهذا دليل حزنك.

-أنا أشرب الخمر لأني ابتليت به،مع أني أحاول جاهداً الفكاك منه0

-لا00بل أنت تهرب إليه00لأنه يذهب بك عن دنياك التي تجدها محزنة!

-لكني أجد دنياي سعيدة!؟

-لو كنت سعيداً لما شربت الخمرة00لأنها دواء المحزونين!

-إن الدنيا قد أحزنت الكثيرين،وأنا قد استوفيت عِدة السعادة فيها00فما الذي يدعوني إلى الحزن؟!

-وما أدراك فقد يكون هذا سبب شقائك00 فإن في المال خاصية عجيبة، فقد تجد اللذة في تمنيه والحلم به00فإذا حصل شقيت به وتبين لك أنه كالسراب يسرك مظهره ومخبره الظمأ والخداع!

-ما أدري هل أنت فلاح أم حكيم!؟

-لا تشغل نفسك بي00 ودعني أفيدك بشيء ربما عقلته أنا لكبر سنّي؟

-ما هو؟

-إن الناس يشتمون الفقر ولو أنصفوه لوجدوه عين الراحة والسلامة في أدواء كثيرة!

-الراحة!!ومن هذا الذي يجد الراحة في الفقر؟!

-يرتاح بالفقر الذي تخفف من طمع الدنيا،وشغلت عليه الآخرة قلبه0

-كثير من الناس زهدوا في الدنيا،وآثروا الآخرة لعجزهم عن الحصول على الدنيا00

-ربما يكون ذلك من حسن تدبير الله لهم ولطفه بهم00فلو تحصل لهم المال لطغوا وانحرفوا0

-حقاً ويكون الفقر بمثابة دليل لهم إلى الآخرة ونجاة لهم0

-الفقر يذمه صاحبه في الدنيا ويحمده في الآخرة0

-لكن النبي صلى الله عليه وسلم قرن الكفر بالفقر ووصف الجوع بأنه بئس الضجيع0

-لقد تيسرت للنبي صلى الله عليه وسلم سبل الغنى00فقد ملك العرب وساد الناس،وأخبر أنه لو شاء لسارت معه الأودية ذهباً وفضة00 ومع ذلك فقد كان بعض أصحابه أطيب عيشاً منه وأسهل حياة00 وهذا اختيار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم0

-إذاً فالأغنياء -على كل حال - في شقاء مستديم!؟

-في شقاء إذا استقر المال في قلوبهم00 أما إذا عمرت الآخرة قلوبهم وتحول المال إلى أيديهم، وقاموا بحق الله فيه فهم خير من الفقراء والمؤمن القوي خير من الضعيف والمال نوع من القوة0
ولسبب لا يدريه شرف الدين قال غياث بلهفة:

-لكنني سعيد بما أنا فيه من الغنى الواسع!

فقال شرف الدين ببديهية:
-سبحان الله00هل تثق في حواسك كل الثقة00إذا استجابت لكل ما تحس به،وحكمت على ما حولك بإحساسك هلكت فالأذن تخدعك والعين تخدعك00والنفس تخدعك وتميل بك إلى ما تشتهي وإن كان ضلالاً!
ألا ترى على كثير من العصاة00 أنهم يفعلون المعصية ويحسون أنهم على صواب فينخدعون ويمضون على أخطائهم!

-إذاً فلن نفعل شيئاً البتة خوفاً من خديعة الحواس؟

-ولهذا أنزل الله الدين حتى يكون مناراً يُهتدى به ويُستدل به على الصواب والفلاح،حفاظاً على الإنسان ورحمة من الله به أن يتبع هواه ورغباته فيضل ويهلك0
كما أن الحلال بين والحرام بين وكل ما أمر تزنه بميزان الله يتبين لك خطأه من صوابه0

-وأين تكون السعادة إذاً؟!

-أنا سأسألك00أين تكون السعادة؟

-أنا أقول إن السعادة في طاعة الله وتقواه،ولكني وجدت سعادتي في الثراء!

-هل جربت سعادة الهدى والتقوى0

-لقد صليت عدة مرات وكنت مع ذلك محزوناً!

-يا بني تقوى الله مراتب00 وكلما اقتربت من ربك كرهت الدنيا،وصرت تراها عبثاً ثقيلاً ومرحلة متعبة تشوقك دوماً للفكاك منها0

-ومتى أصل لهذه الحالة؟

-إذا اتهمت نفسك وشككت في حياتك التي تزعم أنك سعيد بها00وأنا الآن أدعوك للتأمل فيما مضى من عمرك،وما بقي وما سيعقب ذلك وأرجو أن تتجه إلى ربك بالعبادة التي يضيء بها القلب ويعمر بها لا تلك التي لا تعدو الجوارح0

وتناهض الشيخ للانصراف بعدما أوصى غياث أن يبدأ بالشك فيما حوله من حياةٍ وداعةٍ وسعادة مزيَّنة0

وكان هذا اللقاء نقطة البداية في حياة جديدة00قام غياث ذلك اليوم وقد اشتعلت في نفسه جذوة الحزن من جديد،وتسللت إليه كلمات وأفكار شرف الدين التي قلبت حياته رأساً على عقب!