عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 8  ]
قديم 2011-09-21, 9:27 AM
الوديعه
عضو جديد
رقم العضوية : 155795
تاريخ التسجيل : 17 - 9 - 2011
عدد المشاركات : 76

غير متواجد
 
افتراضي
بسم الله الرحمن الرحيم

ثم انطلق و بانت تباشير الفجر الأولى إلى المدينة الكبيرة إلى بغداد

بغداد عاصمة الخلافة جامعة أشتات البشر الفرق شاسع بينها وبين الممرة هنا يسهل الاكتساب والعمل الملتوي بطمأنينة مئات الآلاف من الناس تروح وتغدو وقد استقبلت المدينة الواسعة غياث بن عبد المغيث بغير الاستقبال الأول،فقد جاء الآن تاجراً ثرياً رفيع القدر ولم يجيء ليجلد ويسجن!
لدى وصوله كان أول شيء فعله هو الاتجاه إلى سوق البزازين وأصحاب القماش واشترى حلة ثمينة وعمامة ضافية وجبة وسراويل فاخرة،وتنكر بزي تاجر،واستأجر داراً صغيرة حصينة وأخفى كنزه فيها ،واشترى طعاماً وأكل بشهية عارمة كان فائق الحيوية والبهجة سعيداً بالنصر الذي أحرزه مسروراً بهذه الثروة التي آلت إليه،بعدما قتل في سبيلها ما لا يقل عن سبعة وعشرين رجلاً!!
خرج إلى الأسواق والأماكن العامة وكان يجلس في مواضع قصَّية،يتفرس في وجوه الغادين والرائحين،يلمح وجه مروان أو سعيد أو ذلك الذي كان يقاتله في الغرفة عندما هرب وتمنى لو يعرف عن حنظلة شيئاً وهل هو الذي اختفى أم كان ضمن الذين قتلوا داخل الحجرة؟ إن الذي بقي حياً من هؤلاء الأربعة حتماً سيأتي إلى بغداد ولكن من الصعوبة إيجاده في مدينة كبيرة كبغداد تحوي العديد من الأجناس!
الصراع لم ينته بعد وإن من بقي من الرجال سيجدّون في طلبه لا محالة فلابد من تصفيتهم جميعاً بأي طريقة وكان أكثر ما يهمه سعيد وحنظلة،فهما أوفر شراسة وخطرهما أكبر وقد سرَّه أنهما على غير وفاق، وأن العداوة مستحكمة بينهما أما مروان فلم يكن يخشاه كثيراً لضعف رأيه ولأن كسب جانبه سهل وقليل من المال يكفي لشراء سكوته
وطال انتظاره، ولم يظفر بمن يبحث عنهم وانتظر اليوم الثاني فلم يرَ أياً من الأربعة وأمضى أسبوعاً ثم ثانياً وهو يتردد على الأماكن التي يتوقع أن يراهم فيها، وحدثته نفسه أن مروان وسعيد ربما هلكا ولكن أين الآخرين؟ ودب اليأس إلى قلبه وكان يقطع وقته بتسليته الوحيدة احتساء الخمور
وتاقت نفسه إلى العمل وتحريك غنيمته الضخمة0فذهب يبحث عن سماسرة العقار والضياع00يسأل عن البساتين والمزارع00 وبعد أن طاف على العديد منهم وقف على أحدهم وسأله عن بستانٍ يشتريه فأجابه الرجل:
-ليس عندي غير شوكة!
وما هي الشوكة؟
-نخيل وبستان مهمل00 أصحابه متنازعون متفرقون وقد أوكلوا إليَّ بيعه0
-إن كان في داخل بغداد فلا حاجة لي به0
-لا بل خارجها على مسيرة ساعتين من موضع قدميك0
-وهل هو واسع؟
-نعم00هل تحب أن تراه؟
-نعم0
-إذاً تعال إليَّ غداً0
-بل الآن!
وصاح السمسار منادياً على خادم اسمه سريع00فحضر عبدٌ أسود كهل بلحية بيضاء كرغوة اللبن00وخيل إلى غياث أنه معتوه أو أصمَّ00لأنه لم يتكلم ولم ينظر إليه،ولا إلى سيده وكانت عليه جبةٌ مرقعة وطاقية غليظة وحذائين باليين0
وقال له سيده:
- اذهب بهذا الرجل وأره شوكة0
ومضى غياث مع الخادم وحاول استدراجه إلى الكلام فلم يظفر بشيء، وسار ساعة حتى خرج عن المدينة00 وسار ساعة أخرى حتى وصل إلى بساتين عديدة متجاورة، وما خلفها كان أرضاً جرداء، وفي بقعة معزولة قريباً من النهر00توقف سريع عند بستان كبير بحيطان متينة00 لا يجاوره شيء00وكان فيه كثير من النخل أما أكثره فمساحات جرداء واسعة قد نبت فيها الشوك، وفي جزء منه قام قصر صغير فخم البناء، يحتاج إلى شيء من العناية00 وقد سحبت إلى البستان قناة من نهر دجلة، وفي أقصاه قامت مساكن صغيرة كانت تستخدم لسكن العبيد والفلاحين00 واعتزم غياث شراءه لانعزاله وسعته ووجود ذلك القصر فيه0 ورجع إلى بغداد مع مرافقة الصامت واشترى البستان بلا تردد0
وقال للسمسار:
- و أريد مع البستان شراء خادمك هذا!
ودهش السمسار لهذا الطلب الذي بدا له غريباً وقال:
-تقصد سريع؟
-نعم0
-إنه شيخ بطيء00 ليس له في السرعة إلا اسمه!
-هل يكتب؟
-إنه يكتب وقد جعلته على دفاتري وحسابي00 لولا أمانته ما أبقيته عندي!
-هل يجيد الزرع؟
-نعم إنه يعرف شؤون البساتين0 ولكن كما قلت لك إنه بطيء ولولا البغلة التي تحته ما وصلت البستان إلا في الليل!
-لقد أعجبني صمته وقلة فضوله00 وأنا أرغب فيه0
وانضم سريع إلى كنف سيده الجديد،واشترى غياث مزيداً من الموالي ووجههم إلى البستان لإصلاحه، وعاد إلى المراقبة وكان يسلك الطرق المهجورة مطأطئ الرأس، متلثماً بطرف عمامته0
وذات يوم كان عائداً قبيل المغرب إلى داره وعندما دخلها أغلق الباب ووضع عمامته وتخفف من بعض ثيابه00 وكان السيف لا يفارقه في ذهابه وإيابه ولا عند نومه00 وما كاد يجلس حتى برز له في إحدى الغرف رجل يكرهه00 فوضع يده على السيف وهتف عابساً:
-سعيد؟!
-نعم لقد التقينا مرة ثانية0
ودهش غياث لحالة سعيد00 كانت ذراعه اليسرى مشوهة00 قد أتت النار عليها00 وكانت ثيابه ممزقة في بعض أطرافها0 وخاطبه غياث في خشونة:
-ظننتك هلكت!؟
-لا لم أهلك بعد00 لم يحن أجلي لذا فأنت تراني أمامك!
-ما الذي جاء بك إلى هنا؟
-جئت لزيارتك والسلام عليك0
-الزائر يقرع الباب ولا يتسلق الأسوار!
-استقبالك خشن ياغياث!
-هذا ما يليق بلص مثلك0
-وأنت ألست لصاً؟!
-وأين مروان؟
-هل يهمك أمره؟
-نعم 00 إن أمره يهمني0
وجلس سعيد على دكة قريبة منه ومد رجليه بلا مبالاة وقال:
-لست أدري عن مروان شيئاً00 ربما قتله حنظلة!
-ألم يقتل حنظلة فيمن قتل؟
-لا00 إنه لا يقحم نفسه في الأخطار إلا بالحذر00 ولقد لحق بمروان عندما هرب ظناً منه أن الذهب في حوزته0
- لا أظنه سينجو فقد ركب الخيل وهو يترنَّح0
-إنه صبور كالجمال00 لكنه لا يحسن التصرف0
-يبدو إلي أنه أقل شرساً منك00؟
-إنه أحمق ولولاه لما تعرضنا لهذا القتال بيننا!
فأكد غياث على ما قال:
-لكنه لا يبدو شريراً متمرساً مثلك؟
وهنا قضم سعيد شفته السفلى وقال في مكر:
-أنا ضيف عليك يا غياث ولا يحق لك شتيمتي بهذا الشكل00!
فأجابه غياث في جفاء:
-لكنني لم أدعك ولم أرحب بك0
-لا يهمني هذا00 فقد لمحتك في السوق وتتبعتك حتى عرفت أنك تقيم هنا0
وأدار رأسه في الجدران والسقوف ثم أرعب غياث بنظرة حادة وقال:
-أنت فتى شجاع يا غياث ولو تضافرت جهودنا لاستفدنا كثيراً0
وأدرك غياث ما يرمي إليه سعيد فقال:
-لا تحلم بمثل هذه الأمور00 فقد حصلت على ما يكفيني ولا أظنني بحاجة إلى المزيد من التعب والمخاطرة0
عندها هتف سعيد بحدة وغيظ:
- وأنا وشقيقي أين تذهب أتعابنا وجروحنا ؟!
- تقصد الذهب؟
- وما الذي جاء بي إليك إلا طلب الذهب !!
فقال غياث ببرود تام!
-لقد سبق أن قلت لك أن الذهب سرق للمرة الثالثة!
-أنت تثير غضبي بكلامك هذا00
- هذا شيء أمره إليك وحدك00
تحلب ريق سعيد في فمه،وكدر ملامحه غيظ مكظوم،فقام من مجلسه وما أن تحرك استل غياث سيفه00 فقال سعيد بدون أن ينظر إليه:
-هوِّن عليك ما جئت لهذا00 لو كنت أريد قتلك لاختبأت لك خلف الباب وقتلتك ساعة دخولك!
فهتف غياث:
-لا تتحرك من مكانك00
وبدون أن يأبه له تقدم سعيد إلى موضع الماء وقال:
-أريد أن أشرب وأغتسل00 لقد جئت أعرض عليك الصلح0
وتنحى غياث عنه في حذر فيما تقدم سعيد وغسل وجهه وشرب،ثم قال وهو يمسح وجهه بكمه القذر:
-أنت شديد الحذر وتخاف كثيراً00
-لا شأن لك بهذا 00 قل لماذا جئت؟
- لقد جئت لأقول لك إنه لم يبقَ إلا أنا وأنت و حنظلة ومروان إن كان حياً00 وأنا أعرض عليك إن شئت السلامة أن يكون لك ما حصلت عليه من الأموال، وتدلني على موضع الخرج الذي أسقطته في النهر0 وأما حنظلة فهو لا يعرفك ولم يرك ولا تعرفه ولم ترَ وجهه فإذا ظهر فإنما سيطلبني أنا ومروان00 وتكون بذلك قد أمنت جانبه وكفيت شرَّه0
وسكت سعيد ينتظر جواب غياث00 فتأمله غياث فرآه أصفر الوجه متعباً00 وكان يتكلم بثقة ويأس وتأكد لغياث أنه مقدم على تنفيذ ما يريد ولو كان في ذلك حتفه00 ولكنه لم يصمد لأن شارات الإرهاق بادية عليه مما أغرى غياث أن يتحداه ويسأله بلا مبالاة!
-وإذا رفضت؟
فصاح سعيد وقد استل نصف سيفه من غمده!
-إذا رفضت فهذا سيقنعك!
فقال غياث بهدوء وتحدي!
-إني أرفض00
عند ذلك رمى سعيد قدح الماء من يده واستل سيفه بسرعة وانقض كل منهما على صاحبه،والتحما في قتال مرير00 كان صوت تقارع السيوف يغطي على الكلمات المبهمة التي يقولانها والشتائم التي يتبادلانها0
استمر صراعهما طويلاً
دون أن تميل الغلبة إلى أيٍ منهما00 وتصبب العرق غزيراً من جسديهما00 كان غياث أقوى جسداً من خصمه لكن سعيداً كان أمهر في استعمال السيف0 وتأكد لغياث أن صاحبه عليل ومتعب، فقد ارتخت نظراته وتعددت ضرباته الخاطئة، وحانت منه فرص ومقاتل لكن غياث كان يتجنب قتله0 وازدادت صفرة سعيد،وبدأ يتراجع فيما نشط غياث00 وتعثر عدة مرات لكنه كان ينهض عاجلاً، وبحركة من غياث جرح ذراعه وضرب سيفه بقوة ليطير بعيداً ثم هجم عليه وأطاح به، ووقف على رأسه متصاعد الأنفاس رافعاً سيفه إلى أعلى0
وهتف سعيد لاهثاً:
-اضرب00 فما عاد للحياة طعماً عندي!
وحاول أن ينهض فأهوى غياث بمقبض سيفه على رأسه فسقط مغشياً عليه0