بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
التصق الشابان عند النافذة كأنما نسيا عداوتهما وأمعنا النظر في الظلام ليريا خمسة أشخاص على خيولهم وهم يسرعون تجاه النخيل والبيت الصغير ، وقد أثارت أقدام الخيول خلفهم سحابةً من الغبار00والتقت أعين الثلاثة في وجوم وقال مروان:
-لقد تأخرنا في الهرب، فلنتفق أيها الفتى لحين النجاة من هؤلاء وإلا هلكنا جميعاً!
وقال سعيد في خشونة:
-نتضافر لقتالهم00ثم نسوي ما بيننا فيما بعد0
فقال غياث بشجاعة وبلا تردد:
-قبلت0
وقد قبل على الفور هذا الاقتراح ، لأنه من الخير له أن يجابه سعيد لوحده أو برفقة شقيقه على أن يحاول الفرار بالذهب ثم يجابه مطاردة هؤلاء كلهم00
ورأى أن من الصواب أن يقضي على اللصوص بمعاونة سعيد ثم يقضي على سعيد فيما بعد00 وحدث نفسه أنه لن يواصل القتال بل سيهرب إذا سنحت له فرصة آمنة ، وإذا سلم جسده من طعنات اللصوص!
واقترب الرجال، ونزلوا عن خيولهم ماعدا واحد لم يرَ غياث وجهه بسبب الضلام ولكنه متأكد من أنه حنظلة زعيم هؤلاء الفتاك، لأن شارات السيادة والسيطرة تفيض من حركاته وتصرفاته وخضوع جماعته له0
وسأل سعيد بغيض مكظوم:
-أين وضعت الأموال؟
فرد غياث بفضاضة :
لا شأن لك0
-وسارع مروان يقول لأخيه: لقد عبرت النهر بالجمل على ظهر القارب، وسقطت قريباً من الضفة الأخرى حتى جاء وأنقذني ثم آثرت الاحتماء بالبيت والرجوع ، فرجعنا بعدما أنزلنا الخرجين اللذين فيهما الذهب إلى القارب وكاد القارب يغرق بنا00
فقذف هو بأحد الخرجين لتخفيف حمل القارب، وقد كان يحسبه بعض المتاع00أما الخرج الثاني فقد استولى عليه وأخفاه0
وهنا برقت عينا سعيد الشريرتين وسأل غياث:
في أي موضع من النهر أسقطت الذهب؟
فأجاب غياث بهدوء وعبوس:
-لا شأن لك0
فتركه وسأل مروان عن الموضع فقال:
-لا أدري كنت محموماً00 وكنت مستلقياً في القارب ولا أرى غير السماء0
وسكت سعيد على مضض0وأخذ غياث الحربة وأعطى مروان قوساً وسهماً،وهو يشك في قدرته على استخدامها بينما استعد سعيد بالسيف00وسمعوا أحد اللصوص يقول:
-سعيد هنا00وهذه هي الفرس التي هرب بها0
وصاح الرجل الذي لم ينزل عن فرسه يخاطب سعيد:
-أخرج ياسعيد00 فإن شئتما أعطيتماني الذهب وتركت لكما أرواحكما0
وألتفت غياث إلى مروان قائلاً:
-كيف عرفوا أنكما تختبئان هنا؟
فقال مروان:
-هذا مكان قديم لنا كنا نجتمع فيه0
و صاح الرجل ثانية:
-ألا تسمع!!اخرج قلت لك!
وتمتم سعيد:
-هذا حنظلة إنه غاضب للغاية!
وسأله غياث مستفزاً:
-هل تخاف منه؟
-قَّبحك الله وإياه00 إنه لا يساوي أظفري!
-هل هو مرعب؟فأنت تبدو مرعوباَ؟!
-أصمت!
-أنت من يصمت00 فأنا لست عبداً لك!
ورد سعيد عليه بلطمة قوية00 كافأه غياث بأشد منها00 وكادا يقتتلان ثانية لولا تدخل مروان
وعاد حنظلة يصيح بغضب:
-سيحل عليك غضبي يا سعيد00إنك رجلٌ واحدٌ ونحن خمسة فلا تورد نفسك موارد الهلاك00لقد خنت ما اتفقنا عليه وقتلتَ أحدَ رجالي، وساعدت هذا الأحمق!
التوت شفتا مروان حقداً عندما سمع حنظلة يشتمه0
وسكت حنظلة ليسمع جواباً ، فلم يسمع سوى هدير النهر فاستشاط غضباً وترجل عن حصانه وعاد يصرخ بنفس غضبه:
-اخرج00أعرف أنك هنا00 لقد توقعت أن تجيء إلى هذا الجحر0
ولم يتمالك مروان نفسه فرفع صوته مستكبراً على عجزه:
-ارجع وراءك ياحنظلة00 إنه الموت!
ورغم الأخطار فقد ابتسم غياث من تهديد مروان وهو لا يكاد يقف على قدميه!
بينما قال حنظلة ساخراً:
-هذا صوت مروان!!
بطن مثقوب ولسان طويل!
القتل لمن خان أصحابه0تقدموا و ائتوني بهذا الشقي0
وشهر اثنان من رجاله سيفيهما وتقدما ناحية الباب0
لم يسيرا غير القليل حتى ذهل اللصوصُ جميعاً،فقد انتقلت حربة من نافذة الغرفة الصغيرة لتستقر في فخذ أحد الرجلين فصرخ صرخة مكتومة وسقط على ظهره يتلوى من الألم،والحربة الطويلة مرتكزة في فخذه كالعلم0 وصاح صاحبه:
-لقد أُصيب زليط!!
ثم جعل يجره بإبطيه مبتعداً به0وقاس اللصوص المسافة بين الرجل والنافذة فكانت بعيدة00 تدل بوضوح على رامٍ ماهر!
مما حدا بأحدهم أن يهتف مدهوشاً:
-أهلكني الله إن لم يكن في الغرفة غير مروان وأخيه!!
ورد عليه الآخر:
-صدقت00فمروان جريح00وسعيد لا يجيد غير السيف!
ولم يخْف سعيد إعجابه فقال لغياث بعبوس:
-إنك رامي حاذق ياغلام00لقد أفزعتهم!
فقال غياث:
-لو شئت لو وضعتها بين نهديه00 ولكني لا أحب القتل!
فقال سعيد بحنق:
-يجب أن تحب القتل00 وإلا فماذا ستفعل إذا دخلوا علينا بعد قليل!؟
-إذا وقع ذلك فسأعرف ماذا أفعل0
تراجع اللصوصُ بعيداً عن الحجرة يتشاورون ويعالجون رجل صاحبهم00لقد حسبوا أن البيت الصغير مملوءٌ بالرجال0ثم جلسوا على الأرض في شيء من الحذر والترقب0 وقال سعيد وقد طمأنه وجود هذا الشاب الماهر بجانبه:
-إنهم ينتظرون الصباح 00سيرون منَّا مالا يسرهم0
مضت مدة، وأفرغ غياث في جوفه قليلاً من الماء، ونظر إلى مروان الذي استند إلى الجدار ومد رجليه00وقد سطعت في عينيه نظرة العجز والحيرة فأقترب منه ورفع القربة إلى فمه00 فانتزعها مروان بخشونة من يده وهو يقول:
-سأشرب بنفسي فلست مقعداً ولا عاجزاً كما تظن!
وابتسم غياث من أحد جانبي فمه فيما أضاف مروان وهو يمسح الماء عن لحيته!
-لا تبدو شريراً يا فتى!؟
-ولِمَ البخل ببعض الماء00 والموت يحيط بك00 والرجال يطلبون دمك؟
-يطلبون دمي!!لم يبقَ لهم إلا القليل منه!
-لا أظن ذلك00فإن العافية قد بدأت تسير فيك00دعني أرى الجرح0
وبرفق رفع يد مروان عن الجرح ، وشق الثوب من فوقه ثم مسحه بخرقة وبعض الماء00 وأزل الدماء المتيَّبسة حوله00كان جلد بطنه مشقوقاَ بطول الكف00 وكان محاطاً بالزرقة00وتأمله غياث ثم قال بسرور حقيقي:
-الطعنة التي أصابتك على جلد البطن00ولم تنفذ إلى الأحشاء!
ولو أسرعت إلى الطبيب وخاط بطنك لنجوت00
فقال مروان بيأس:
-الطبيب!! وأين الطبيب وأنا في هذا الموضع؟!
وأطرق غياث برأسه إلى الأرض متأملاً ثم قال لسعيد:
-هل تظن أن يسمحوا له بالرحيل؟
-كيف يسمحوا له أن يرحل سالماً،وقد قتلت أنا صاحبهم وجرحت أنت الأخر؟
-حتى ولو أعطيناهم بعض الذهب؟
-ويلك لن ينالوا منه قطعة واحدة
-حتى ولو كان في ذلك هلاك أخيك؟!
وأحس سعيد أن غياث أراد أن يفضحه00فسكت وقد طوى نفسه على حقد مكتوم0وبعد مدة أطل غياث من النافذة الصغيرة، وخشي انبلاج الصباح ففكر ملياً00ثم قال لمروان مبهوجاً:
-لقد وجدت طريقةً لإخراجك من هنا00سنثقب جدار الحجرة الثانية من الخلف ثم تتسلل من الثقب بهدوء وتركب فرس سعيد وتهرب00
-وكيف أهرب وهم يتربصون أمام النافذة والباب؟
إنهم أمام النافذة والباب لكن الجهة الخلفية للبيت لا يرونها فالنخيل يسترها00وهي التي تقف خلفها الفرس وسيساعدك الظلام في الهروب0
-أخشى أن تفشل خطتك00فيدركونني ويقتلونني00؟
-ذلك خير لك من البقاء هنا00وعليك المحاولة00 فإما أن تنجح وتهرب وإما أن يجتزَّوا عنقك بسيوفهم0
بدون أن ينتظر موافقة أحد شرع في نقب الجدار بأحد الرماح وسعيد يراقب اللصوص0
ولما قارب الضياء على الانبلاج كانت الثغرة قد أُنجزت وربط غياث بطن مروان وشدَّه وأعطاه قليلاً من الماء وقال له:
-هل تستطيع ركوب الخيل؟
-لا أدري00
-إذا ركبت حاول أن تتماسك، وتتحامل على جرحك كي لا تقع0
-سأحاولُ0
وأخرج غياث السيف القديم من الصندوق وأمسك الحربة في يده،وبدأ الاستعداد لتهريب مروان من البيت0 لكن ما وقع لم يكن في الحُسبان!
فقد عمد رفاق حنظلة إلى العريش الصغير وأشعلوا فيه النار من أجل أن تحاصر اللذين بداخل الحجرة وتضطرهم للخروج00وأرتفعت ألسنة اللهب00وأضاء لها المكان، وعلقت النار في باب الحجرة المتداعي ثم اشتعلت في السقف كادت الحرارة والدخان تخنقهم،وهتف مروان كاظماً صوته حتى لا يسمعه اللصوص:
-ساعدوني على الخروج وإلا احترقت!
ثم زحف وأدخل رأسه في النقب ودفعه غياث إلى الخارج وتابعه وهو يمشي راكعاً يتخفى عن أعين مراقبيه وكي لا تشتد عليه آلامه0ورآه يصل إلى الفرس المربوطة التي كانت تصهل وتحمحم،وقد أهاجتها رؤية النيران،ثم ركب بعد محاولات مضطربة ممسكاً بطنه وأنطلق مبتعداً00 وشك غياث في بقائه المدة الكافية ليصل إلى بغداد0
التجأ غياث وسعيد إلى الحجرة الثانية هرباً من الحرارة، بينما اقتحم أربعة من اللصوص الحجرة الأولى المشتعلة00
وكان أجرأهم زليط الذي تقدم وهو يعرج رابطاً فخذه بلفافة وقد لاحت في عينيه شهوة الانتقام00وبرز لهم سعيد وغياث وتشيَّم غياث أن يقاتل صاحب اللفافة لعاهته فتركه لسعيد الذي قضى عليه في لحظات 00
وتراجع غياث قليلاً وشدَّ أصابعه على الحربة ثم قذفها بعنف لتستقر في جوف أحد الثلاثة وتصرعه00ثم تقدم بالسيف القديم، ونشب بين الرجال قتال ضار زاده عنفاً ذاك اللهب الذي عمَّ أجزاء السقف وأصبح يتساقط عليهم من الأعلى،وتحامل غياث على صاحبه فصرعه وبقي سعيد ملتحماً بآخر الرجال00
وتساءل غياث عن حنظلة 00 كانت صرة ثيابه في زاوية الحجرة الثانية، وتحتها خرج الذهب مواراً بالتراب00 وقاس غياث بعينيه بين الباب وبين كنزه المدفون ، وكانت عينا سعيد تحاصره وهو يصارع خصمه على الأرض00وبسرعة انتزع غياث ثيابه و ولى هارباً إلى الباب،لكن جزءاً من السقف انهار وسدَّ الباب0وصاح سعيد بالرجل الذي كان يعتليه:
-الأموال!!إنه يهرب بالأموال!
وظنها الرجل خدعة فلم يتركه، وتصاعد الغبار والدخان ولم يعد أحد يرى شيئاً،و انطلق غياث إلى حيث النقب وخرج منه وهو يتنفس الهواء النقي00ويتمنى أن تطول معركة الرجلين00 ومضى إلى أحد الخيول التي كانت ترعى الحشائش على حواف النهر وقد تفرقت بعد مقتل أصحابها00وركب أحدها في عجلةٍ وهو يتلفت حذراً باحثاً عن الرجل الخامس!!