الفصل الثاني/ السجين يهرب غياث
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الفصل الثاني
العذاب00
الضيق000
الأماني العراض التي افترسها الفشل00
كل ذلك انحرف بمسيرته00وأهلك القناعة بداخله ، وأوقد في نفسه رغبة مسعورة لتحقيق ما يريد!!
تأمل حاله المزرية00بطالة طاغية00فقرٌ مقدع00أبوه الصياد كهلٌ متعبٌ00حطمته الأيام ، ونهشه الفقر والحاجة المستديمة للمال ، فأصبح يذكر الموت أكثر من ذكره ملذات الحياة00 لكنه مع ذلك زاهدٌ عفيفٌ ، لم يسأل أحداً يوماً فلساً واحداً0وعمل مع والده في صباه كثيراً00 أصبح حواتاً ماهراً يصيد السمك بحربة الصيد مع أي جزء يشاء ، ثم عمل حمَّالاً00ثم مزارعاً00ثم حرفياً0
لكنه ولد بنفس طموحه00إلى المجد و الجاه00 إلى الصيت الذائع ، وتراكم في نفسه اعتقاد راسخ بأن مشكلته و سعادته في المال00 فسعى للبحث عن الثراء بوحشية!
مارس التجارة ففشل،ونفد كل مامعه من نقود00 جرَّب القمار فلازمته الخسارة الدائمة00ثم عمد إلى موهبته الأصلية00الشعر00 استعار جبة وعمامة عريضة00 ودخل على الولاة وكبار القادة ، ونظم القصائد في المديح والتملق،فلم يظفر إلا بالقليل،فترك الشعر وعاد إلى القمار فخسرمن جديد00 وأرهقته الديون وتراكم عليه البؤس وقادته الأحزان إلى الخمرة و أقداح النبيذ0ومع الأيام القاسية انحرف تفكيره فظن أنه خُلق حقوداً شريراَ000فصار لصاً00 يسطو على المنازل00 وشُكي إلى والده ، فأمسكه الكهل وربطه إلى جذع نخلة في صحن الدار وجلده حتى بال على نفسه وخر مغشياً عليه0
وعاد إلى السرقة من جديد فقبض عليه وسجن وجلد في سجن الوالي ببغداد ، وكادت يده أن تقطع ذات مرة!
وهدده والده بالبراءة منه ثم طرده أخيراً0
بات يمشي حتى منتصف الليل وأدركه التعب فجلس متكئاً على صرة ثيابه، ثم استلقى على رمل ناعم وبقي يهذي بكلام غير مفهوم،ثم غط في نوم عميق0
نام طويلاً في مكانه ذاك حتى أيقظته شمس الضحى الساخنة،فقام وتمطى ونفض ثيابه والعرق يغطي جسمه المتين ، وغمس وجهه في مياه دجلة ، وأروى عطشه ، ثم استلقى من جديد تحت ظل شجرة ، وعاود النوم حتى انحسر عنه الظل فتحول إلى موضع الظل ، ونام ولم يستيقظ إلا منتصف العصر!
استيقظ والجوع والعطش يستبدان به فقام و واصل مسيره بعدما شرب من دجلة الكثير00
وصل إلى إحدى القرى الواقعة على النهر ، وتجول في بعض طرقها وطلب من بعض أصحاب الحوانيت إقراضه شيئاً من الطعام،فلم يعطه أحدٌ شيئا ً، فمنظره الكئيب ، وشعره المشعث ونظراته القاسية لم تكن تبعث على الطمأنينة ، وألح في المسألة على أحدهم فنهره وطرده فخرج غاضباً وتمنى لو يحرق القرية على من فيها0
ومضى مبتعداً عن القرية متوكئاً على غصن عريض 00
صادف أحد الصيادين راكباَحماره، ومعه سلة فيها سمك فسأله عن بغداد فأخبره أنها على مسيرة نهار كامل من هنا00تأمل غياث بن عبد المغيث الرجل وحماره بنظرات شرسة أثارت ريبة الصياد، وقبل أن ينخس حماره ليبتعد أهوى غياث بهراوته على مؤخرة رأسه فسقط عن ظهر الحمار مغشياً عليه00!
وبهدوء بحث غياث في ثيابه وسلب ما معه من المال وركب الحمار ومضى0
عندما حل المساء توقف على الشاطئ00 كانت الغيوم قد حجبت ضوء القمر،فعم الظلام الدامي أرجاء المكان00 وأشعل نارا و شوى بعض ما في السلة من السمك00 وجلس يأكل بشهية مفتوحة حتى شبع وعاد إلى نشاطه ، وتمنى في هذه اللحظة قدحاً من النبيذ يذهب به عن الدنيا0
كان قد بقي على بغداد مسافة ليست بالقصيرة، ومع أنه كان نشطاً إلا أنه آثر أن يكمل مسيرته في الصباح00لم يذهب إلى بغداد إلا مرتين في حياته00
الأولى وهو صبي في صحبة والده00 والثانية عندما حُمل مكبلاً وجلد هناك لقيامه بالسرقة0
كم هالته المدينة الكبيرة العامرة00 التي تعج بمئات الآلاف من البشر من جميع الأنحاء00في بغداد يسهل التخفي،وتكثر الأوكار الآمنة،والأرزاق والجواري وأطيب الخمور00 وهناك سيجد من يعاضده في أعمال الليل وغزوات المنازل!
ظل مستسلماً لخواطره حتى اجتذب سمعه أنين خافت!!
تلفت حوله فلم يرَ شيئاً فعزى ذلك إلى توهمه00لكن الصوت عاد ثانية، وتتبعه غياث00 كان أنيناً لرجل موجوع أو مصاب00 أرخى سمعه مرة ثالثة ليجدالصوت منبعث من خلف كثيب صغير قريب منه0
فقام وذهب إلى الكثيب ليجد رجلاً في نحو الخامسة والأربعين ملطخاً بالدماء، وفي كتفه جرح بدم يابس ، كان واضحاً أنه تعرض لعراك شديد00 فثيابه ممزقة00 ورأسه حاسر مشعث الشعر 00 وكان يمسك بطنه بإحدى يديه0
ولإنقاذه حمله غياث بين يديه وأنزله إلى جانب النهر ورش وجهه بالماء وجعل يضرب خديه بخشونة حتى استفاق00وفتح الرجل عينيه وأدارهما في غياث ثم في الليل برعب وريبة وسأل بوجل:
- أين أنا؟وأين الجمل؟!
فأجاب غياث:
- أنت هنا على شاطئ النهر0
- والجمل؟!
- لم أرَ جملاً هنا!
ثم قال يطمئنه:
-لا بأس عليك، جرحك بسيط وسيندمل سريعاً0ولم يعلق الرجل بغير الأنين0 فظهرت خشونة غياث وقال في ضجر:
- أنت تئن كالثكالى00 كأنك00ولم يكمل عبارته لأن الرجل أبعد يده عن بطنه فبان تحتها جرح غائر طويل بطول الكف!! فصاح غياث:
- ويحك يا رجل 00أنت تحتاج إلى طبيب!!
فقال الرجل يائساً:
- أنا أحتاج إلى كفن0وسأله غياث بما يشبه الزعيق:
-من أنت؟ ومن أين جئت؟!
فقال بيأسه الأول:
-سأخبرك بماتريد00 لكن أرفعني قليلاً عن الأرض00واستجاب له غياث رافعاً ظهره عن الأرض فأدار الرجل عينيه المرعوبتين،ومسح بهما أرجاء المكان، وقال وهو يشير بيده التي ليست على الجرح إلى جهة من البر:
-هناك00 ستجد الجمل هناك00 لقد رأيته يذهب من هذه الناحية عندما سقطت من على ظهره0وذهب غياث إلى حيث أشار الرجلُ الجريحُ ليبحث عن جمله00 تجول قليلاً في الفلاة المظُلمة وهم بالرجوع وهو يشتم الرجل:
-قتله الله00 لم تنته مصيبتي حتى أبلى به!!
لكنه وجد الجمل ملتفاً بالظلام باركاً على الأرض00 يجتر ما أكله في النهار00 هدر الجمل عندما رآه، فاقتاده غياث إلى الرجل الذي أخذه الإعياء فنام00
قذف غياث إلى النار ببعض الحطب فارتفع اللهب متراقصاً00مضيئاً المكان00 تأمل غياث الرجل وبدا له أنه يعرفه وحاول أن يتذكر00كان دقيق الملامح00مهزولاً00 على جانب صدغه الأيسر أثر جرح قديم،منعه بعض شعر اللحية من الظهور00 وعندما تذكره هزًّ رأسه!
و بهدوء وحذر تحسس ثيابه وجيوبه، فلم يجد غير بضعة دراهم، فسلبها و وضعها في جيبه00 و راعه أن جسد الرجل كان يفوربالحرارة!
وأحس الرجل به فاستيقظ وتكلم وهو يلهث:
-هل جئت؟
-نعم00 وقد وجدت جملك0
-إذاً انظر هناك00 ستجد قارباً كبيراً00 انزل به أحمال الجمل00ولنصعد إليه ونعبر إلى الضفة الأخرى من النهر، فهناك بقايا نخل وبيت صغير مهجور00هيا بسرعة !
-لماذا لا نبيت الليلة هنا، ونمضي إلى البيت في الصباح؟!
-لا00لابد أن نكون هناك حالاً0
-تبدو مستعجلاً00 هل هناك شيء؟!
-ستعرف فيما بعد00هيا بسرعة00بسهولة وجد غياث القارب 00 ووجده قديماً متهالكاً00 فحمل الرجل إليه وأبقاه مستلقياً على ظهره في قاع القارب، ويده لا تفارق بطنه،وقد عاد إليه الأنين0
وعمد إلى أحمال الجمل00 فوجدها خرجين متوسطين معلقين على جانبي الجمل00 وكانا ثقيلين محكمي الإغلاق والربط00حملهما إلى القارب ولم ينسَ صرة ثيابه00 وحل قيود الجمل والحمار وترك لهما الحرية00 وبدأ يجدف مجتازاً النهر الهادر لكي يصل إلي الجهة الغربية00ظل يجدف حتى صاح الرجل فجأة:
- الماء!! الماء سيغمر القارب؟!
كانا في منتصف النهر، وبحث غياث في القارب فلم يجد مصدر الماء بسبب الظلام00 فجعل يتحسس بطن القارب بيديه حتى وجده فصاح بغضب:
-إنه مثقوب! كيف لم تخبرني أنه مثقوب؟!
-لم أكن أعلم00 وإلا لما تركتك تبحر به00 ربماحطمه الجمل!
لم يفهم غياث شيئاً وظل يجدف بانفعال في سباق مع المياه المتدفقة التي أبطئت بسرعة القارب، فترك غياث المجاديف، وجعل ينزح المياه من القارب بدلو وجده00ومع الوقت عجز عن السيطرة على الماء فجلس يستريح ويدلك زنديه القويين00فهتف به الرجل ملهوفاً:
-لاتتوقف00 أنا لا أستطيع النهوض وستغرقني المياه و أنا مستلقٍ قبل أن يغوص القارب!
فقال غياث في برم:
-قبحك الله00 وماذا أصنع بك؟ كل ما أستطيع فعله أن أخفف من حمل القارب حتى يسهل التجديف00وقذف بالصناديق والشباك والحبال إلى جوف النهر00
وتناول احد الخرجين بسرعة وقذف به إلى الماء 00 ومد يده إلى الثاني فصاح به الرجل الجريح:
-لا 000إنه الذهب !!؟كانت صيحته منكرة00 جعلت شعر غياث يقف!
وضم الرجل الخرج الثاني إلى صدره كأنما يريد حمايت هو ،خاطب غياث بغضب وأسى:
-لماذا قذفت به يا أحمق؟!فقال غياث بدهشة:
-أنت لم تخبرني أنه ذهب00 لقد ظننته من سائر المتاع!
وعاد ينزح المياه من القارب بالدلو00 في صراع مع النهر ثم يجدف وهو ينقل بصره مابين قعر القارب، وصفحة النهرالداكنة المخيفة00
ثم حانت منه التفاتة إلى الرجل فوجده يذرف دموعاً غزاراً00 كان الشعور بالعجز والخسارة قد غلبه00ثم سمعه غياث يهذي:
-طعنت وقاتلت من أجله00وهاأنذا أخسر نصفه00 عذبك الله يا عدي كما عذبتني!
بصعوبة وصلوا إلى الضفة الأخرى من النهر، وحمل غياث الرجل إلى حيث يوجد النخيل والبيت00وكان النخيل قليلاً00متقارباً و خاوياً00 وبداخله قامت حجرتان متداعيتان من الطين وأمامهما عريش صغير من جريد النخل0
وضع غياث الرجل على الأرض0 لكنه صاح:
-بالداخل00 بداخل الغرفة فلا طاقة لي بالبرد!
كان الجو معتدلاً00لكن الحمى كانت تفترس الرجل00فحمله غياث إلى الداخل وهو متشبث بالخرج المتبقي وأنزله في الحجرة المظلمة وهويئن00 ويهتف لاهثاً:
-نار 00أوقد ناراً00 الجليد يكاد يقتلني00 أنا محموم!
ثم غاب عن رشده، وعاد إلى الهذيان وإلى شتيمة عدي00 وأشخاص أخرين00حنظلة00بكرة بن مرة00 زليط00
وسقط الخرج من يده محدثاً صوتاً أثار فضول غياث الذي قام وجمع بعض الحطب وأشعل ناراً أضاءت أركان الحجرة00 ثم عمد إلى الخرج فتناوله وفتحه00 ليطلق صيحة مكتومة عندما وجده يكاد يفيض بالذهب الخالص...!
التعديل الأخير تم بواسطة الوديعه ; 2011-09-20 الساعة 3:07 PM.
|