الوقفة الثالثة : من أسرار الابتلاء وحكمه
ذكر ابن القيم – رحمه الله – بعضها في إغاثة اللهفان : ومنها : حصول الإخلاص في الدعاء ، وصدق الإنابة إلى الله ، والالتجاء وشدة التضرع بمن لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ...} ومن فوائد الابتلاء : تمحيص الذنوب والسيئات ، وبلوغ الدرجات العلية في الجنات "إلى آخر ما ذكر رحمه الله .
== روي أنه كان في زمن حاتم الأصم رجل يقال له : معاذ الكبير . أصابته مصيبة ، فجزع منها وأمر بإحضار النائحات وكسر الأواني . فسمعه حاتم فذهب إلى تعزيته مع تلامذته ، وأمر تلميذاً له . فقال : إذا جلست فاسألني عن قوله تعالى : { إن الإنسان لربه لكنود } فسأله فقال حاتم : ليس هذا موضع السؤال . فسأله ثانيا ، وثالثا . فقال : معناه أن الإنسان لكفور ، عداد للمصائب ، نساء للنعم ، مثل معاذ هذا ، ان الله تعالى متعه بالنعم خمسين سنة ، فلم يجمع الناس عليها شاكراً لله عز وجل . فلما أصابته مصيبة جمع الناس يشكو من الله تعالى ؟!!
فقال معاذ : بلى ، إن معاذاً لكنود عداد للمصائب نساء للنعم . فأمر بإخراج النائحات وتاب عن ذلك .
الوقفة الرابعة : إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب
{ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله ... وأولئك هم المهتدون}
قال صلى الله عليه وسلم : " ما رُزِقَ عبدُ عطاء خيراً له ولا أوسعَ من الصبر " رواه الحاكم وصححه الألباني
أما مصيبة المرض ، فإن الله جعلها تذكرة وتنبيهاً للمؤمن ، ليعود إلى ربَّه ، وتنكسرَ نفسُه بين يديه جل وعلا . وقد جعل الله الأجور الوفيرة لمن صبر على مرضه الذي نزل به .
== والمرض إما أن يكون حسياً عضوياً ، أو يكونَ مرضاً نفسياً ، والأمراض في كلَّ منهما تتفاوتُ درجاتُها ، ولكنْ على قدر المشقة والألم يكون الأجر والجزاء .
فإذا حلَّ بك مرض – صغيراً أو كبيراً – فاصبر عليه صبر الراضي بقضاء الله وقدره ،
وتذكر ما أعده الله للصابرين على ما أصابهم من الأمراض والأوجاع ، ومن ذلك مثلا :
• ما رواه البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ ( تعب ) وَلَا وَصَبٍ ( مرض ) وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ " وفي هذا الحديث دلالة على أن المرض النفسي كالبدني في تكفير السيئات .
• في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه)ِ بَلَغَتْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغًا شَدِيدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا أَوْ الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا " .
• َوفي المسند أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلَاحُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فَكُلَّ سُوءٍ عَمِلْنَا جُزِينَا بِهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْتَ تَمْرَضُ أَلَسْتَ تَنْصَبُ أَلَسْتَ تَحْزَنُ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ قَالَ بَلَى قَالَ فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ" .
• في صحيح مسلم عن جَابِر بن عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيَّبِ تُزَفْزِفِينَ قَالَتْ الْحُمَّى لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا فَقَالَ لَا تَسُبِّي الْحُمَّى فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيد "
== والمرض خير للإنسان ، وعلامة من علامات الإيمان ، وأما من لم يصب بالمرض ولا بشيء من الأسقام فذاك نذير خطر ، وعلامة شر .
• جاء في صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ الزَّرْعِ يَفِيءُ وَرَقُهُ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ تُكَفِّئُهَا فَإِذَا سَكَنَتْ اعْتَدَلَتْ وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يُكَفَّأُ بِالْبَلَاءِ وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ " .
وفي المسند وصححه أحمد شاكر وشعيب الأرناؤوط عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَخَذَتْكَ أُمُّ مِلْدَمٍ قَطُّ قَالَ وَمَا أُمُّ مِلْدَمٍ قَالَ حَرٌّ يَكُونُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ قَالَ مَا وَجَدْتُ هَذَا قَطُّ قَالَ فَهَلْ أَخَذَكَ هَذَا الصُّدَاعُ قَطُّ قَالَ وَمَا هَذَا الصُّدَاعُ قَالَ عِرْقٌ يَضْرِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي رَأْسِهِ قَالَ مَا وَجَدْتُ هَذَا قَطُّ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا "
== وفي كتاب الزهد لهنّاد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " إنكم ترون الكافر من أصح الناس جسما وأمرضِهم قلبا ، وتلقون المؤمن من أصح الناس قلبا ، وأمرضهم جسما ، وايم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان " .
== الشيخ ابن باز يبكي لعدم إصابته بالمرض !!
== ومن أعظم المصائب التي تقع كثيرا ويحسن الحديث عن فضل الصبر عليها واحتساب الأجر في حق من حلت به : المصيبة بفقد الأولاد والأحباب
فلا شك أنها من أعظم البلاء على النفس وموتُ الولد خاصة (ذكراً كان أو أنثى) فجيعةٌ وأيُّ فجيعة ، ومن ذاق الفراق عرف طعمَه المر قال بعضهم :
بُنيَّ إن عدمتُك في حياتي *** فلن أعدِمك ذخراً في المعادِ
وكنتَ حُشاشتي وجلاءَ همَّي *** وإلفي والمفرَّجَ عن فؤادي
• ففقد الولد لا شك أنه من أشد البلاء وأقساه فالولد قطعة من والديه ولهذا جاء في سنن الترمذي وحسنه الألباني عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته قبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول ماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد "
ولكن نقول : أيها المبتلى بفقد ولده : كان ما كان ، وذهب ولدك فما أنت صانع ؟! وإلى أين المفر والمشتكى ؟
مالك إلا الصبرُ الجميل ، الصبر الذي لا شكوى فيه ، والرضا والتسليم بما كتب الله ، فتلك وديعة الله عندك ، وقد استردها ، ونحن ملكُه وعبيده ، والخلقُ خلقُه ، والأمر أمرُه .فاصبر وصابر 0
اصبر لكل مصيبة وتجلَّدِ *** واعلم بأن المرء غير مخلَّد
واصبر كما صبر الكرامُ فإنها *** نُوَبٌ تنوب اليوم تكشف في غدِ
وإذا أتَتك مصيبة تَشجى لها *** فاذكر مصابك بالنبي محمد
== وههنا أيها المفجوع بفقد ولده جملة من المبشرات لمن صبر على ما أصابه ، لعلَّها أن تسلَّيَك وتعزيَك ، وتنفس عنك شيئاً من همومك وأحزانك
• وفي سنن النسائي ومسند الإمام احمد بسند صححه الألباني معاوية بن قرة يحدث عن أبيه قال : ( قصة الأب وابنه الذي مات )
• في سنن ابن ماجه وحسنه الألباني عن عتبة بن عبد السلمي فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل "
• وعند ابن ماجة وصححه الألباني عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتسبته "