11. اقتربي يا فاطمة !
ونرجع بالقارئ الكريم إلى صيف عام 1914 م الموافق سنة 1332هـ وعلى محطة مدينة طنطا والناس وقوف ينتظرون القطار القادم من الإسكندرية في طريقه إلى القاهرة وهم بين مودِّع ومودَّعٍ وحاملٍ أمتعته ومتأهبٍ لركوب القطار وفي وسط هذا الزحام كانت هذه القصة التى يذوب لها القلب ، حكاها الأستاذ عبد الله بن عفيفي الباجوري رحمه الله : قال كنت واقفا أترقب القطار والكلُّ مشغول في الدقائق المتبقية بين توديع وإشفاق وترقب وانتظار ، وكنت في شُغُلٍ بصديق يجاذبني أطرافَ حديثِ شيِّقٍ ممتعٍ وفي تلك اللحطات الفانية راع الناسَ صياحٌ وصراخٌ ومُشادَّةٌ ومدافعةٌ فالتفتنا فإذ بفتاة في السابعة عشرة من عمرها يسوقها شرطي عتيدٍ شديد وساعٍ من سعاة إحدى السفارات ومن خلفهم عجوز أوروبي تجاوز الستين مهمومٌ مهزولٌ ، وهي تدافع الرجلين بكل قوتها الضعيفة حتى أقبل القطار فكاد كلٌّ ينسى بذلك الموقفِ موقفَهُ ثم أُصعدت الفتاةُ وصعد الركابُ واتخذت أنا وصاحبي مكانا قريبا من مقعدها ، كل ذلك والفتاة في حزن وكرب لا يَجْمُلُ معه الصبر ، ولا يُحمَدُ الصمتُ ، فسألتُ العجوزَ الأوروبيَّ ما خطبُهُ وما أمرُ هذه الفتاة ؟ فقال وقد أشرقَهُ (15) الدمعُ وقطع صوتَه الأسى :" إنني رجل أسباني نصراني وهذه الفتاة ابنتي ، عرض لها منذ حين ما لم أتوقعه ، صحوت ذات صباح على صوتها تصلي صلاة المسلمين ، ومنذ ذلك اليوم احتجزتْ ثيابَها لتتولى أمر غسلها بعيدا عن ثيابنا وأرسلت خمارها الأبيض على صفحة وجهها وصدرها ثم أخذت تمضي وقتها في صلاة وصيام وكانت تدعى روز فأبت إلا أن تنادى بفاطمة وما لبثت حتى تبعتها أختها الصغرى فصارت أشبهَ بها من الزهرة بالزهرة ! ففزعتُ من هول ذلك وانطلقتُ إلى أحد الأساقفة فأخذ يحاورها لكنه لم يفلح في إقناعها وإرجاعها ، وعزَّت على الرجل خيبته فكتب إلى معتمد الدولة الأسبانية بأمر الأسرة الخارجة على دينها ، وهنالك آمر المعتمدُ حكومةَ مصرَ فساقت ابنتي كما ترى وأجمعوا على أن يلقوا بها في غيابة دير من الأديرة " .
قلتُ له : وهل يرضيك أن تساق ابنتُك كما تساقُ المجرماتُ الآثماتُ على غير إثم أو جريمة ؟
فزفر الرجل زفرةً كاد يتصدع منها قلبه وتتفرق ضلوعه ، ثم قال أما وقد خدعتُ ودُهمتُ فما عساني أفعل ؟
على إثر ذلك انثنيت إلى الفتاة وهي تعالج من أهوال الحزن وأثقاله ما تنوء عن حمله الجبال فقلت : ما بالك يا فاطمة ؟ وكأنها أنست بي إذ ناديتها باسمها الذي تحبُّ فأجابتني متنهِّدةً بصوت يتعثر منه الأسى والضنى : قالت كان لنا جيرة مسلمون أغدو إليهم فأستمع أمر دينهم ، حتى إذا أخذني النوم ذات ليلة رأيت النبي محمداً e في هالة من نور يخطف سناها الأبصار يقول وهو يلوِّح بيده اقتربي يا فاطمة ، فلم تكد تتم كلامها حتى أخذتها رِعدةٌ فهوت على مقعدها ، سمع من حولنا كلامها فغشيهم من الحزن ما غشيهم وأبصرت بشيخٍ فطلبت منه أن يؤذِّنَ في أُذُنِهَا فلما انتهى إلى قوله تعالى أشهد أن محمداً رسول الله أفاقت وتنفسَّت الصُّعداء ، وأخذت في البكاء ، وعاودتها سيرتها الأولى : ولسان حالها يقول :
وإني لتعروني لذكراكَ هِزَّةٌ *** كما انتفضَ العصفورُ بلَّلَه القَطْرُ (16)
أموتُ إِذَا ذَكَرْتُكَ ثُمَّ أَحْيَا *** فَكَمْ أَحْيَا بِذِكْرِكَ أَوْ أَمُوتُ
فَأَحْيَا بِالمُنَى وَأَمُوتُ شَوْقًا *** فَكَمْ أَحْيَا عَلَيْكَ وَكَمْ أَمُوتُ
شَرِبْتُ الحُبَّ كَأْسًا بَعْدَ كَأْسٍ *** فَمَا نَفَدَ الشَّرابُ وَمَا رَوِيتُ
فلما أفاقت قلت لها : ومم تخافين وتفزعين ؟ قالت إنه سيؤمر بي إلى الدير ، وأنا لا أخاف من السياط ، وإنما أخاف أن يحال بيني وبين الصلاة ، قلت لها يا فاطمة ألا أدلك على خير من هذا ! قالت : أجل قلت : إن الإيمان في القلب فما عليك أن لو أقررت أمام المعتمد بدينك القديم حتى لا يؤمر بك إلى الدير ، هنالك نظرت إليَّ نظرةً غاضبةً ثم قالت : إنني إن أطعت نفسي فإن لساني لن يطاوعني ، ثم وصل القطار إلى محطة القاهرة وحيل بيني وبين الفتاة وانقطع خبرها وطويت صفحتها بين غياهب ذلك الدير (17) ، كما طويت صفحات من سبقها ومن لحقها ممن اخترن طريق الحق وثبتن عليه ، ولم يجدن على الحق نصيرًا ، رحمك الله يا فاطمة ، ورحم الله كل من سلك هذا الدرب ، وَثَبَتْ عليه .