فنزل عن فرسه ولواء النبي صلى الله عليه وسلم في يده ، فقاتل مقبلاً غير مدبر حتى قُتل .. لاحقاً بزميليه اللذين سبقاه إلى الشهاده ..
لحقهما وهو يردد :
يا نفس إلاَّ تقتلي تموتي
وما تمنيتِ فقد أُعطيتِ
هذا حِمام الموت قد صَليتِ
إن تفعلي فعلهما هُديتِ
لقد عانى الرومان الأهوال من المسلمين ، وصنع بهم المسلمون مقتلة عظيمة ..
وكان من قتلى الرومان القائد العام لقوات العرب المتنصره واسمه مالك بن زافله .. قتله قائد ميمنه المسلمين قطبة بن قتادة العذري رضي الله عنه وأرضاه ..
ظلَّ المسلمون ثابتون يقارعون ، ويقامون ، ويصورون أعظم الصور في التضحية والثبات ..
غير أن مصرع القادة الثلاثه ، وبقاء الجيش دونما قائد رجحت كفة الرومان ، وحدث خلل واضطراب في صفوف المسلمين ، وأخذ بعضهم ينهزم لا سيما بعد سقوط الراية ، وبدأت تظهر عليهم علامات الهزيمه ..
لكن ثابت بن أقرم - أحد فرسان الأنصار - أنقذ الموقف ، ورفع اللواء وصاح : يا معشر المسلمين اطلعوا على رجل منكم يحمل اللواء ويقود الجيش .. فرشحوه فاعتذر وقال : ما أنا بفاعل ..
وبلغ الموقف خطورة لا تُحتمل ..
فقدوا قادة الجيش ، وبدأت علامات الفوضى والاضطراب تظهر ..
ولم يكن هناك من تتجه الأنظار إليه لإنقاذ الموقف سوى المحارب الشهير ، والبطل المغوار خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه ..
الذي لم يمض على دخوله في الإسلام سوى ثلاثة أشهر فقط ..
اسمع يا حديث الاستقامه ..
لم يمض على دخول خالد في الإسلام سوى ثلاثة أشهر فقط ..
فصاح ثابت بن أقرم بخالد :
خذ اللواء يا أبا سليمان ..
فقال خالد : لا آخذه ..أنت أحق به لأنك أقدم إسلاماً ، وأكبر سناً ..والرجال تعرف قدر الرجال ..
فقال ثابت : خذه يا خالد فوالله ما أخذته إلا لك ، فأنت أعلم مني بفنون القتال..
فأيده كبار الجيش وطلبوا من خالد تولي القياده لإنقاذ الموقف المتدهور الذي سيؤدي إلى إبادة الجيش إن لم يتدارك الأمر ..
فحمل الراية خالد وأصبح قائداً عاماً للجيش..
هذه الأحداث في أرض المعركه ..
فكيف كانت المدينه وكيف كان حالها !!..
هذا ما سنعرفه في الخطبة الثانيه ..
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم ..
ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ..
ونفعني وإياكم بهدي لمصطفى الأمين ..
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانيه :
الحمد لله العزيز القهار ، مكور الليل على النهار ، ينصر من يشاء ، ويعز من يشاء ، يخلق ما يشاء ويختار ..
هو القائل جلَّ في علاه : { إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ..
ذكر المؤرخون وأصحاب السير والحديث أن الله تعالى كشف لرسوله المسافة الفاصله بين المدينه ومكان المعركه حتى صار ينظر عياناً إلى ما حدث هناك من قتال ضارٍ عنيف ..
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى زيداً ، وجعفرً ، وابن رواحه للناس قبل أن يأيتهم الخبر ..
فقال صلى الله عليه وسلم :
( أخذ الرايه زيد فأصيب ..
ثم أخذها جعفر فأصيب ..
ثم أخذها ابن رواحه فأصيب )..
وعيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان ..
ثم سكت ، ثم قال :
( ولقد رفعوا إليَّ في الجنه ) – يعني القاده الثلاثه - ..
ثم قال :
( ولقد حمل الرايه الآن سيف من سيوف الله ..
ولقد حمي الوطيس حتى فتح الله عليهم )..
اجتمعت المدينه حول نبيها تتابع أخبار المعركه حية على الهواء وحياً ..
واليوم اجتمع المسلمون حول الشاشات والقنوات لمتابعة المسلسلات والمباريات حية على الهواء ..
فسبحان الله ..فرق بين الأمس واليوم ..
لقد كان اختيار خالد بن الوليد قائداً للجيش في تلك الساعات الحرجه اختياراً موفقاً فهو ..
فارس شجاع ..
وبطل مغوار ..
وداهية في القيادة العكسريه هجوماً ودفاعاً ..
ولقد أثبت خالدٌ في ذلك اليوم تلك البطولة الفذه ..
حين قاد أول معركة بعد إسلامه ..
نعم أحبتي ..
لقد حمي الوطيس ، وبدأت تتطاير الرؤوس ، وتتقطع الأعضاء والأشلاء ، والدماء في كل بقعة تسيل كالأنهار ..
روى البخاري عن خالد نفسه أنه قال : اندقت في يدي يوم مؤته تسعة أسياف ، وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانيه ..
عباد الله ..
إنَّ للطاقة البشريه حدود ..
والله لا يكلف نفساً إلا وسعها ..
ولقد رأى خالد بخبرته وحنكته أن جيشه الصغير قد أبلى بلاءً حسناً ، وكبَّد العدو الخسائر في الأموال والأرواح ، ولقنهم درساً لن ينسوه ..
فكان لا بدَّ من خطة لإخراج الجيش من أرض المعركه بأقل الخسائر ..
فقام خالد أثناء الليل بتبديل كلي للميمنه ، والميسره ، والقلب ..
فبدل مواقع الرجال ..
هدفه من ذلك أنَّ يجعل الرومان يعتقدون أنَّ جيشاً جديداً يشارك في القتال ..
فرسم هذه الخطه للإيهام ، والخداع ، والتضليل ..
فما كاد يطلع الصباح حتى وجد الرومان أنفسهم أمام جيش جديد ما كانوا يعرفونه طوال أيام ستة من القتال فظنوا أنَّ مدداً كبيراً قد جاء للمسلمين أثناء الليل فدبَّ الخوف في قلوبهم ..
وبينما هم في دهشتهم – أي الرومان – إذا بغبار يسدُّ الأفق من خلف ظهر الجيش المسلم ..
وما هي إلا لحظات وجزيه حتى دوت وارتفعت في أرض " مؤته " أصوات التهليل والتكبير ، ثم انشق الغبار عن كتائب من الفرسان تتبع أحداهما الأخرى في تنسيق وإحكام راكضة نحو المسلمين ..وحوافر خيلها وأصوات فرسانها تصمّ آذان الرومان بالتهليل والتكبير ..
ولإدخال مزيد من الرعب في قلوب الرومان اهتزَّ معسكر المسلمين المواجه للرومان في أرض المعركه بالتكبير والتهليل ..
الله أكبر ، ولا إله إلا الله ..
أي قوة تقف أمام التكبير والتهليل ..
كل ذلك تمَّ بتخطيط محكم من القائد المظفر خالد ..
أيقن الرومان أنَّ كل ما رأوه من تغيير شامل في الميمنة ، والميسرة ، والقلب ، وتدفق لتلك الكتائب التي أقبلت من خلف الجيش ، إنما هو مدد كبير جاء من المدينه لمساندة المسلمين ليستمروا في خوض المعركة حتى النصر ..
فدبَّ الرعب في نفوسهم ..
وساد الهرج والمرج ..
ولسان حالهم : إذا كان ثلاثة آلاف قد فعلوا الأفاعيل ، وظلوا يجالدون مئتي ألف طوال ستة أيام ، فماذا عسى أن يصنعوا بهم بعد وصول هذا المدد الكبير !..
وأدرك خالد بحاسة القائد الماهر المحنك ما أصاب الرومان وحلفائهم من خوف ورعب نتيجة الخطة البارعه ..
فاغتنمها فرصة فأمر جيشه بالهجوم ..
كبر معهم خالد وكبروا ..
وكسحوا الرومان بهجوم ساحق كاسح ..
فمالت أسياف المسلمين على الرقاب ، ومالت صفوفهم على خطوط الرومان الأماميه ..
فتملك الرعب الرومان ..
واضطربت صفوفهم ، وركبهم المسلمون ، وأحدثوا فيهم مقتلة عظيمة ..
كانت كما وصفها المؤرخون مذبحة بكل المعاني ..
قال ابن سعد في طبقاته وهو يروي قصة انتصار خالد على الرومان بعد توليه القياده:
ثم أخذ الرايه عبد الله بن رواحه ثالث القاده وطاعن حتى قُتل ..
ثم انهزم المسلمون أسوأ هزيمة رأيتها قط ..
ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد..
ثم حمل على القوم فهزمهم الله أسوأ هزيمة رأيتها قط ..
حتى وضع المسلمون أسيافهم حيث شاؤوا ..
واستمر خالد وجيشه يطاردون الرومان في أرض المعركه حتى أثخنوهم جراحاً ..
ثم اغتنم خالد فرصة ارتباك الجيوش الرومانيه واضطرابها فأصدر أوامره إلى قادة الفرق والكتائب في جيشه بالارتداد بالجيش جنوباً كما هو متفق عليه حينما وضعوا خطة الانسحاب ليلاً ..
فأخذ الجيش الصغير يغادر ميدان المعركه بكل هدوء ، وثقة ، وانضباط ..
وأشرف خالد على عملية الانسحاب فكان يجول بفرسه بين الكتائب ليظل النظام سائداً أثناء الانسحاب ، ولتظل روح الجند والقادة ومعنوياتهم عاليه فلا يدركهم خوف واضطراب ..
فتمت عملية الانسحاب كما أراد القائد البطل على أدق نظام ودونما أية خساره ..
وأصبح الجيش الروماني شبه مشلول يسوده الذهول لما لقيه على أيدي المسلمين من الهجوم الكاسح الذي قام به خالد ومن معه بعد نجاح حيلته العسكريه ، وخدعته الحربيه الباهره ..
بل أصدر قادتهم – أي قادة الرومان – أصدروا أوامرهم إلى كافة الكتائب بأن لا يتعقبوا أحداً من المسلمين بعد انسحابهم ..
لأنهم ظنوا أنَّ الانسحاب إنما هو مكيدة حربية لإيقاع الجيش الروماني في كمائن العرب إذا ما تتبع الجيش المنسحب ، وهم يعرفون أنه لا أحد يجيد الكرَّ والفرّ والكمائن ويحسنها مثل العرب ..
فخافوا من تتبع المسلمين بل كانوا مسرورين بالانسحاب..
فالمسلمون رغم قلة عددهم فلقد أنزلوا بالرومان خسارة كبيرة ، وحمّلوهم ذلاً وعاراً ..هذا قبل وصول المدد ..
فكيف وقد وصلهم المدد كما ظنوا !..
وصل خالد بجيشه إلى المدينه دون أن يتعرض لأي خطر في الطريق ..
فكيف استقبلتهم المدينه !..
كيف استقبلت المدينه الجيش ، ولقد وصلت إليهم الأخبار أنَّ المسلمين قد فروا وانهزموا من أرض المعركه ..
فاستاء أهل المدينه لذلك ..
فما كاد خالد يصل بجيشه إلى ضواحي المدينه حتى قابلته مظاهرة كبيرة تندد بالجيش ، وكان المتظاهرون يصحون بالجيش :
يا فُرَّار ! يا فُرَّار فررتم من الموت في سبيل الله ..
ويحثون في وجوه الجند والقادة التراب ..
أما النساء فلم يفتحوا لأزواجهم الأبواب ، وأغلقوا الأبواب دونهم قائلين لهم :
أما كان لكم أن تموتوا مع أصحابكم ..
أما الأطفال فلقد استقبلوا خالداً ومن معه في أزقة المدينه بالحجارة والتراب ، قائلين لهم : يا فُرَّار .. يا فُرَّار ..
ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يعلم بالأخبار الصحيحة ، ومقدار التضحيات والبطولات التي قام بها الجيش المسلم فلقد قام مدافعاً عن الجيش وأفراده قائلاً :
( ليسوا بالفُرَّار ، ولكنهم الكُرَّار إن شاء الله ) ..
وكيف أن خالد أنقذ جيشه من فناء محقق بخطة عسكرية بارعه وألحق بالرومان أبشع هزيمه..
وألحق بالرومان وجنودهم شرَّ مقتلة وهزيمه ..وحمّلهم خزي وعار ..
هذه أخبارهم ..
هذه أخبارهم ..
فما هي أخبارنا ؟!.
هذه تضحياتهم ..
فأين هي تضحياتنا ؟!..
هذه بطولاتهم ..
فأين هي بطولاتنا ؟!.
هذه أخبار شيبهم وشبابهم ..
فما هي أخبار شبابنا وشيبنا ؟!..
هذه أخبار نسائهم ..
فما هي أخبار نسائنا ؟!.
هذه أخبار أطفالهم ..
فما هي أخبار أطفالنا ؟!..
ما الفرق بين الأمس ..واليوم ؟؟!!..
اسمع بارك الله فيك ..
بالأمس كان صغارنا يستقبلون خالداً ومن معه في أزقة المدينة والحجاره ..
كان يقولون لخالد ومن معه : إلى أين يا فُرَّار ..
واليوم صغارنا يستقبلون ..
غانيه ، ومطرباً بيده قيثار ..
ولاعباً في صالة المطار بالورود والأزهار ..
ملكنا هذه الدنيا قروناً
وسطرنا صحائف من ضياءٍ
بنينا حقبة في الأرض مُلكاً
شباب ذللوا سبل المعالي
تعهدهم فأنبتهم نباتاً
إذا شهدوا الوغى كانوا كماةً
وإذا جنَّ المساء فلا تراهم
شباب لم تحطمه البيات
ولم تشهدهم الأقداح يوماً
وما عرفوا الأغاني مائعات
ترى هل يرجع الماضي فإني
ترى هل يرجع الماضي فإني
وأخضعها جدود خالدونا
فما نسي الزمان ولا نسينا
يدعمه شباب طامحون
وما عرفوا سوى الإسلام دينا
كريماً فاض في الدنيا غصونا
يدكون المعاقل والحصونا
من الإشفاق إلا ساجدينا
ولم يُسلم إلى الخصم العرينا
وقد ملأوا نواديهم مجونا
ولكن العلا صيغت لحونا
أذوب لذلك الماضي حنينا
أذوب لذلك الماضي حنينا