وعلى الآية الأولى من هذه الآيات الثلاثة يحمل قوله تعالى هنا:
﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾
أي: قد رأى الإنسان أنا خلقناه من نطفة؛ لكنه غفل عن مبدأ خلقه، فأنكر إحياء العظام الرميمة، فذكَّره تعالى بمبدأ خلقه؛ ليدله به على النشأة الثانية. وهذا المعنى الثاني- أعني: إنكار إحياء العظام الرميمة- هو الذي أشارت إليه الواو، التي أدخلت بين الهمزة، وأداة النفي، وهو معنى مغاير لما رأوه من خلق الله تعالى لأنفسهم. ولو كانت هذه الواو للعطف، لما دلت الآية على هذا المعنى.
وفرق كبير بين أن يقال في معنى الآية: أغفل الإنسان، ولم يرَ، وبين أن يقال: قد رأى؛ ولكنه غفل، أو نسي، أو تناسى.
وكوْنُ هذا الاستفهام في معنى الإثبات يقتضي- كما ذكرنا- أن ما بعده قد وقع، وعلم به الناس، إما عن طريق المشاهدة؛ كما في قوله تعالى:
﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾.
أو عن طريق السماع؛ كما في قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بٍأًصْحَابِ الْفِيلِ ﴾(الفيل:1)
قيل في تفسيره: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. وهو، وإن لم يشهد تلك الوقعة، لكن شاهد آثارها، وسمع بالتواتر أخبارها؛ فكأنه رآها.
ولقائل أن يقول: قال الله تعالى:
﴿ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾(العنكبوت:19)
فعلق الرؤية بكيفية الخلق، لا بالخلق، والكيفية غير معلومة، فكيف جاز أن يقال:﴿ أَوَ لَمْ يَرَوْا ﴾؟ فالجواب عن ذلك: أن هذا القدر من الكيفية معلوم، وهو أن الله تعالى خلق الإنسان، ولم يكن شيئًا مذكورًا، وأنه خلقه من نطفة، هي من غذاء، هو من ماء وتراب، وهذا القَدْرُ كافٍ في حصول العلم بإمكان الإعادة؛ فإن الإعادة مثله.
وقال تعالى:﴿أَوَلَمْ يَرَ ﴾، ولم يقل:﴿أَوَلَمْ يَنْظُر ﴾؛ لأن حقيقة النظر هي تقليب البصر حيال مكان المرئي طلبًا لرؤيته، ولا يكون ذلك إلا مع فقد العلم. والشاهد قولهم: نظر، فلم يَرَ شيئًا. ويقال: نظر إلى كذا، إذا مدَّ طرفه إليه رآه، أو لم يرَه. أما الرؤية فهي إدراك الشيء من الجهة المقابلة. وإدراك الشيء هو الإحاطة به من كل الجوانب، ووكلاهما لا يكون إلا مع وجود العلم.
بقي أن تعلم أن الفرق بين الرؤية والعلم هو أن الرؤية لا تكون إلا لموجود، والعلم يتناول الموجود والمعدوم. وكل رؤية لم يعرض معها آفة فالمرئي بها معلوم ضرورة، وكل رؤية فهي لمحدود، أو قائم في محدود؛ كما أن كل إحساس من طريق اللمس، فإنه يقتضي أن يكون لمحدود، أو قائم في محدود.
فإذا عرفت ذلك، تبين لك سِرَّ التعبير بالرؤية في قوله تعالى:
﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ ﴾؟
دون التعبير بالنظر؛ كأن يقال:﴿ أَوَلَمْ يَنْظُر الْإِنسَانُ ﴾؟ أو التعبير بالعلم؛ كأن يقال:﴿ أَوَلَمْ يَعْلَم ﴾؟