وكانت الخادمة ستيتة كما أمرتها سيدتها قد أغلقت جميع الأبواب والنوافذ ولما كانت الشقة داخلية ولا تطل على الشارع فقد بدت الردهة معتمة ..
وكان كلما هم بالخروج أبقته السيدة احسان وقالت له أنها تخاف الآن ولم تشعر بمثل هذا الخوف فى حياتها .. بعد أن رأت النيران مشتعلة فى الحى .. والجماهير الغاضبة .. وترجوه أن يبقى معها هذه الليلة ما دام يعيش وحده فى القاهرة ولن ينزعج أحد لغيابه عن البيت ..
ورأى من توسلاتها ونظرات عينيها أن يبقى ..
وجلس يتحدث مع احسان حتى دخل الليل وأخبرته أنها تشتغل راقصة فى ملهى بشارع عماد الدين وأنها تعيش وحدها مع الخادمة .. وتذهب إلى المرقص فى الساعة التاسعة ليلا .. ولكنها هذه الليلة لن تذهب بالطبع .. وربما كان الملهى نفسه يحترق فى هذه الساعة فقد سمعت أن الحريق امتد إلى بناية مجاورة له ..
ورآها جميلة وطيبة وعذبة الحديث وفيها رقة وصفاء فحزن لأنها تحترف هذه المهنة وتعرض جسمها عاريا كل ليلة للأنظار المتوحشة ..
وسألها :
ـ هل تربحين كثيرا من هذه الحرفة ..؟
ـ أبدا .. واخترتها بعد عذاب .. وجوع ..
ونظرت إلى السـقف كأنها تحلم أو تسترجع شريط حياتها ..
وقالت بصوت ناعم الجرس :
ـ كنت متزوجة من شاب وسيم وغنى وكنت صغيرة .. وأطوع له من بنانه .. ولكنه خاننى أبشع خيانة ..
ـ كيف .. ؟
ـ كنت مريضة بالتيفود .. وطريحة الفراش .. وذات ليلة وجدته يحتضن الخادمة .
ـ وتركته بعدها ..؟
ـ أجل طلبت الطلاق .. وكنت وحيدة وفقيرة وأريد أن أشتغل فى أى عمل أعيش منه .. حتى غسالة فى البيوت .. لأصون نفسى من الدنس .. وأظل عفيفة .. ولكن .. أى رجل لايتقاضى ثمن خدماته للمرأة المسكينة !؟ ودفعت الثمن لأول رجل شغلنى فى مصنع للتريكو .. وبعدها هانت علىّ نفسى واحترفت الرقص .. وأنا أعيش مستقلة ..
ـ ومسرورة بعملك .. وشاعرة بالراحة ..؟
ـ لقد تبلد احساسى فى الواقع .. لم يعد له احساس الأنثى .. وأنا أمثل فى كل ليلة .. أتكلف الابتسام والضحك لأرضى الزبون ..
وأمنيتى أن أقع على من يخفق له قلبى .. ويسمعنى كلمة حلوة مجردة من كل غرض ..
ـ أو لم تسمعى هذه الكلمة بعد ..؟
ـ أبدا .. ما سمعتها قط ..
ـ ان هذا محزن فى الواقع ..
ورفعت رأسها إلى عينيه وسألته :
ـ لماذا يبدو وجهك شاحبا .. هل لازلت خائفا ..
ـ ذهب عنى الخوف .. ولكن هذا من أثر الجوع ..
ـ وهل أنت فقير إلى هذا الحد .. ولماذا لاتعمل ؟
ـ فقير جدا .. ومنذ سنين وأنا أبحث عن عمل .. دون نتيجة ..
ـ تعال عندى فى الملهى وأشغلك ..
ـ فى أى وظيفة ..؟
ـ سأجعلك تراقب الزبائن فى الصالة ..
ـ لست من ذوى العضلات الحديدية حتى أصلح لهذا .
ـ أى عمل .. أى عمل تحبه ..
ـ يا سيدتى شكرا جزيلا ..
وحدقت فى وجهه طويلا .. وقالت :
ـ لا أدرى أين رأيتك من قبل .
ـ وأنا كذلك أسائل نفسى هذا السؤال..
ـ ولهذا لم يكن وجهك غريبا عنى وأنا أفتح لك الباب .
ـ لقد نجيتنى من الموت .. ولا أدرى كيف أشكرك ..
وتحسس العقد فى جيبه .. ثم أخرجه وقدمه لها ..
وبرقت عيناها وحدقت فى عجب ..
ـ ما هذا ..؟
ـ عقد وجدته ملقى فى الطريق .. سقط من الذين نهبوا المتاجر ..
ولم يشأ أن يقول لها أنه سرقه ..
وسألته :
ـ أنهبوا المتاجر ..؟
ـ معظم الحوانيت فى هذه المنطقة .. نهبت وحرقت ..
ـ يا ليتنى كنت هناك ، كنت ملأت بيتى بكل ما يعوذنى من تحف وجواهر ..
وضحكت ..
فقال :
ـ أنزل .. وأملأ لك جيوبى ..؟
ـ أتسرق ..؟
ـ لقد سرقت ..
ـ سرقت ..؟!!
ـ نعم وهذا العقد سرقته .. لم أجده فى الشارع كما قلت لك من قبل ..
واحمر وجهه ..
ولاحظ أن لون وجهها شحب ونظرت إليه باشفاق ..
ـ ولماذا فعلت هذا وأنت شاب وأمامك الحياة الشريفة .. تشق طريقها بأظافرك ..؟
ـ لقد فعلت ما فعل الناس .. وجدتهم يسرقون ويغشون ويكذبون .. ففعلت مثلهم ..
ـ وهل الناس جميعا هكذا كما تصورت .. انك ناقم على المجتمع لأنك عاطل .. ولماذا تبحث عن وظيفة فى الحكومة .. ابحث عن عمل آخر وهناك عمل لكل من يكافح ..
ـ ما الذى أفعله وأنا فقير .. والأجانب يسيطرون على كل الأعمال الحرة ويمسكون الخيوط فى أيديهم .. ولا أحد يستطيع أن يتسلل من هذا الحصار ..
ـ هذا حق .. ولكن على المرء أن يسعى ..
ـ لقد سعيت كثيرا وتعبت ..
ـ داوم على الطرق ..
ـ الآن وقد بعثت فى روحى الأمل سأداوم ..
ـ ضع العقد فى جيبك ..
ـ كيف .. اننى أقدمه لك ..
ـ ضعه فى جيبك لا أحب أن تراه ستيتة ..
ـ ولماذا تردينه ..؟
ـ لتقدمه للبوليس .. قل أنك وجدته ملقى فى الطريق ..
ـ سيقبضون علىّ .. هل أنا مجنون حتى أفعل هذا .. سيقبضون علىّ وأدخل السجن بسبب حماقتى ..
ـ والآن أنت مستريح ..
ـ كل الراحة ..
ـ اذن خذه ..