عاصٍ يبني الحياء [3]
إننا ونحن نسعى لبناء حاجز الحياء صيانة ووقاية للنفس من المعاصي لا بد لنا من نظرة دقيقة إلى النصوص النبوية والقرآنية ليس من جهة بيان فضيلة الحياء أو عظم أجر المستحقين من الله فقط, ولكننا سنجد في كوامن النصوص النبوية إشارات إلى كيفية بناء الحياء في النفوس وإيضاح الوسائل المستخدمة لذلك.
1ـ إن أول النصوص التي ستوقفتنا في مبحث الحياء هو هذا المشهد لصاحبي يعاتب أخاه على شدة حيائه وكأنما يقول له: 'قد أضر بك الحياء' فيقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له 'دعه .. فإن الحياء من الإيمان'.
وانظر إلى تفسير الأمام أبي عبيد الهروي لهذا الحديث بقوله: 'معناه أن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي .. فصار كالإيمان القاطع بينه وبين المعاصي'
وعندما تجمع هذا الحديث مع قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صحيح سنن ابن ماجه 'الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة والبذاء من الجفاء والجفاء في النار'.
نلمح ارتباطًا وثيقًا بين الحياء والإيمان، ولما كان الإيمان كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والحياء من الإيمان, فإن الحياء كذلك يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، أو بمعنى أدق يزيد بالطاعات المؤكدة على معنى الحياء وينقص بالمعاصي التي تخدش الحياء وتهتك ستره، ومنها كما ذكر في الحديث السابق البذاء, وهو الفحش في القول والعمل, وهذه أولى الوقفات معنا هنا أن الحياء يزيد وينقص يزيد بما يصون ستره وينقص بما يهتكه.
2ـ ثاني هذه النصوص الأثر الوارد في صحيح البخاري في كتاب الأدب عن بشير بن كعب في كعب: 'مكتوب في الحكمة أن من الحياء وقارًا وأن من الحياء سكينة' يوضح لنا ذلك الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ بقوله: 'أي أن من الحياء ما يحمل صاحبه على الوقار بأن يوقر غيره ويتوقر هو في نفسه، ومنه ما يحمله أن يسكن عن كثير مما يتحرك الناس فيه من الأمور التي لا تليق بذيء المروءة'.
ـ وبذا يضع لنا الإمام القرطبي فائدة أخرى جلية في وسائل زراعة الحياء وهي الوقار والسكون, وقار يتكلفه المرء يكون بتوقير الغير بداية واحترامهم وإجلالهم لكبر في سنهم أو لمزيد فضل أو علم أو خلافه.
ثم بعد ذلك يتوقر العبد في نفسه بأن يكبر بها لا على الناس ولكن على نفسه, فينضج في تصرفاته ويقبح لنفسه التصرفات التي تقلل من شأنها بين الناس كإصدار الأصوات المزعجة، والمشي بطرق ليس فيها وقار وارتكاب الأفعال التي تجعل الناس ينظرون إلى المرء على أنه لا يراعي قيمًا ولا تقاليد ولا أعرافًا, فيصون العبد نفسه عن ذلك كله فلا ينادي مثلاً على أصحابه بصوت مرتفع في الطريق بل يصعد على شققهم يسأل عنهم على الأبواب, ويجتنب عند ذلك أن يقف في مواجهة الباب لتكشف عينه ما يستره أهل البيت، وهذا كمثال فقط على توقير الإنسان نفسه.
ـ والشق الثاني من الأثر هو السكينة أو 'أن يسكن عن كثير مما يتحرك الناس فيه من الأمور التي لا تليق بذي المروءة'.
إن من أسهل الأشياء أن ترد على من شتمك وسبك وعابك وأن تؤذي من آذاك وأن تكون صاحب جناب خشاك الناس لشرك سواء شر اللسان أو الفعل، ولكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلمنا أن هذا المسلك هو مسلك فاقدي الحياء مع الله تعالى ومع الخلق فيقول: 'إن من شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه'.
فإذا كنت تقود سيارتك وآذاك آخر بسيارته فكن صاحب الحياء الذي يدفع إلى السكون عن الحركة والاندفاع في رد الإيذاء بإيذاء، والصوت المرتفع بأعلى منه، وثق أن مكسبك من هذا السكون أعظم من الاندفاع هدوءًا في الأعصاب، وصيانة للنفس عن النزول بمستواها، ورفعًا لقيمة الحياء عندك، وقد ضمن الله تعالى أعلى درجات الإيمان وهو الإحسان لمن صنع ذلك فقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
فمن وسائل زارعة الحياء الوقار والسكينة، وقار توقر به غيرك إجلالاً واحترامًا لكبر سن أو مزية فضل أو علم أو إجلال أو غيره، وتوقر به نفسك صيانة عن سلوكيات لا تليق بمثلك وهو كذلك سكينة تدفع إلى السكون عن كثير من الأفعال التي يعاب على صاحبها, هذا بالطبع في المجتمع الملتزم بالقيم والآداب العامة. وهذه ثاني الوقفات.
3ـ ثالث هذه النصوص ما ورد عندما سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال عريانًا في الخلوة فأجاب بقوله: 'الله أحق أن يستحيا منه من الناس'.
[حسنه الترمذي من معلقات البخاري]
والذي يستحي من ربه إن كشف عورته في خلوته حري به أن يمنعه الحياء عن الإقدام على معصية، وسيلة أخرى لزراعة وبناء قدر جديد من الحياء في النفس ألا وهي حب التستر، حتى وإن الواحد منا بمفرده في منزله وخلوته، فقد نبهنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا بد للمرء أن يجعل حياءه من الله أشد من حيائه من الناس، وهذه طريقة أساسية لبناء الحياء من الله في النفس خاصة عند التعامل مع أعضاء جسده, فمن الناس من تعود على الجلوس عريانًا في منزله إذا كان خاليا منفردًا, أو لا يغطي جسده إلا ورقة التوت وهو يرى في ذلك راحة واطمئنانًا، ولا يرضى أن يراه أحد من الناس على هذه الحالة لكنه لا يأبه أن تراه الملائكة ويراه الله عز وجل.
إن وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأحد أصحابه 'أوصيك أن تستحي من الله تعالى كما تستحي من الرجل الصالح من قومك'. [رواه الطبراني]
هي من التوجيهات المباشرة لكيفية بناء الحياة في النفس البشرية أن يتلمح المرء نفسه كيف تستحي من الصالحين في أهله وجيرانه ومعارفه, ويلزمها أن تنقل هذا الاستحياء إلى عالم الغيب مع الله تعالى، وإن مشهد الرجل الممسك بالسيجارة في يده ينفث بها الدخان من فمه مشهد هذا الرجل وهو يفاجأ في الطريق بعابد أو عالم يعرفه، مشهده وهو يقذف بسيجارته جانبًا أو يخفيها وراء ظهره ليجعلك تتلمس فيه بعض معاني الحياء التي تدعوه أن يتأمل نفسه في هذا الموقف فيرتقى بها مخاطبًا إياها 'فالله أحق أن يُستحيا منه'.
وفي المقابل تجد مشهدًا آخر لمن ينسفون ما بقي من آثار الحياء داخل نفوسهم ويضحك عليهم الشيطان بأنهم عندما يفعلون المعصية ويراهم عليها أهل الطاعة فليقاوموا هذا الدافع داخل نفوسهم للاختفاء والهرب فماداموا لا يختفون من الله فلا داعي للاختفاء من البشر وهم لا يعلمون أنهم بذلك يفتكون بباقي ثوب الحياء في نفوسهم ويحولونها إلى فريسة سهلة للشيطان وأعوانه للجرأة على الله والتفاخر بمعصيته, فيفقدون بذلك الصلة الباقية بينهم وبين الله من أثر الحياء الواردة في الحديث القدسي:
'يا ابن آدم إنك ما استحييت مني أنسيت الناس عيوبك وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك ومحوت من أم الكتاب زلاتك، وإلا ناقشتك الحساب يوم القيامة'.
ويتعرضون للسخط الوارد في الحديث النبوي:
'كل أمتي معافى إلا المجاهرين. قالوا: ومن المجاهرون يا رسول الله؟ قال: الذين يذنبون الذنب بالليل فيسترهم الله فيصبحون يكشفون ستر الله عليهم'.
وهم مع ذلك يظنون في جرأتهم على الصالحين وفضح أنفسهم بروز معاني الرجولة والقوة ولا يعلمون أنهم من أسهل فرائس الشطيان لكسر وهتك ما بقي من ستر حيائهم.
إن التوجيه النبوي المباشر بالحياء من الله كما يستحي المرء من صالح قومه يتم عبر خطاب قوي مستمر للنفس أن الله تعالى أحق بالحياء منه من فلان وفلان، وهو بناء للغيبي بالمادي، أي إنني أبني الحياء من الغيب وهو الله تعالى بالحياء من المادة وهم البشر الصالحون الذين أعايشهم أمامي.
4ـ من النصوص النبوية التي ستقف عندها أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الحاكم في مستدركه: 'الحياء والإيمان قرناء جميعًا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر'.
فمن وسائل بناء الحياء في النفوس زيادة الإيمان والثبات على المستوى الإيماني وعدم التذبذب فيه, فهو مما يعود جوارح المرء على الطاعات فيدفعها إلى استيحاش المعصية والحرص على مجانبتها، فلابد من العناية الشديدة بوسائل الثبات على دين الله تعالى خاصة في الفتور، ونضمن لك بذلك الحفاظ على مستوى الحياء الواقي من المعاصي كما في الحديث.
'وإن لكل عمل شره ولكل شرة فترة .. فمن كانت فترته إلى سنتي فقد هدي' فمن كانت فترته على السنة فقد ضمن له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الهداية.
5ـ خامس الآثار قول الجنيد: 'الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء' وهذا مشهد آخر من مشاهد بناء الحياء في النفس, فإن النفس مجبولة على الحياء ممن أسدى إليها معروفًا ومفطورة على رد النعمة بمثلها وكذا نفوس الكرام، فمن الأمور التي تعظم الحياء استشعار عظم نعم الله على العبد وكثرتها وتتابعها الواحدة تلو الأخرى بغير أداء لحقها أو رد بمثلها بل قد تقابل بالجرأة على الله وعدم الأدب معه سبحانه فيتولد منها شعور بالحياء لا يزال ينمو ما استشعر العبد تقصيره ونعم الله عليه لما احتضر الأسود بن يزيد النخعي بكى فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: ما لي لا أجزع ومن أحق بذلك مني والله لو أنبئت بالمغفرة من الله لأهابن الحياء منه مما صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحيًا منه.
وللحديث بقية في الجزء الرابع