عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 1  ]
قديم 2006-11-24, 1:37 PM
عبيراليمن
عضو جديد
رقم العضوية : 9634
تاريخ التسجيل : 24 - 9 - 2005
عدد المشاركات : 92

غير متواجد
 
افتراضي رحـــــــلة ( القــلب ) .. الأخيرة ..! - 3
الدم من السموم .
- فشل .. ؟!

لاحظ وقع الكلمة العنيف عليّ ، فحاول أن يضفي عليها تفسيرات تلطّفها . أسهب في الحديث ، عن أن هذا مصطلح طبي ، يراد منه ، عدم قيام العضو بوظيفته على الوجه الأكمل ، و بالتالي (عجزه) ، عن تلبية احتياجات اعضاء الجسم الأخرى .. التي تعتمد عليه . شعر كأنما وقع على اكتشاف غير مسبوق .. حينما نطق كلمة (عجز) ، و أحس أن (هذا) هو التفسير ، الذي كان يبحث عنه لـ(يرضيني) :
- عجز ..! نعم .. نعم ، هو التعبير الصحيح ، أو ما يسمى بالإنجليزية ، failuer .. بعض الترجمات ، في المجال الطبي غير دقيقة ..

عجز .. أو فشل ، لا فرق .. ! الألم الذي يعصر قلبي ، شعرت بوطأته تزداد ، و الخوف الذي يقرع أبوابه .. صار له دوي ، صرت أسمعه في أذني . تبدو الترجمة مخادعة و مخاتلة ، اكثر مما هي غير دقيقة . مثلما هي إجابته ، عندما سألته : هل يمكن أن يعود عمل الكلى و الكبد ، إلى الوضع الطبيعي .. إذا انتظم عمل القلب ، و تجاوز أزمة انخفاض الضغط :
- نحن نركز الآن على تنشيط القلب ، و مقاومة البكتيريا .. و هو الآن على (maximum support) .

إقتحمت الجملة الإنجليزية أبواب القلب ، فدخلت جحافل الخوف .. و طفقت تمزق حبال الأمل . اختصرت لي حالته ، التي كان الطبيب يحاول أن يخفيها :
" لا نستطيع أن نفعل له ، أكثر مما هو حاصل الآن .. فهو في وضع (المساندة القصوى) .."
معتمد كليا على الأجهزة .. و بكى القلب .
أغمضت عيني ، و أشحت بوجهي عن الطبيب . تأملته .. كان صدره يعلو و يهبط ، و له صوت . الجهاز يمنحه التنفس .. و بكى القلب .

.. و خرجت أسحب خطاي . المرضى على يميني و على يساري ، لم أنتبه لأحد . موظف الأمن نبهني ، أن الباب الذي أحاول فتحه .. لأخرج ، هو باب الطواريء ، و ليس المخرج . رفعت رأسي .. هناك لوحة إرشادية ، لم أتبيّن المكتوب عليها . العينان غائمتان ، فاحتجبت الرؤية . طأطأت .. و مسحت عينيّ ، لم أشأ أن يراهما رجل الأمن . هل عيب أن نبكي ، حينما يتألم من نحب .. أو يوشكون على الرحيل .. ؟!

في المساء جئت ، لم يتغير شيء . إحدى شقيقاتي ، كانت موجودة . هالها مشهد الجهاز ، مثلما هالني . سألتني بهلع ، و هي ترى الدم (يجول) في الأسطوانة البلاستيكية ، و في الأنابيب .. ماذا يكون هذا (الشيء ) ، و ما هي وظيفته ..؟ نفس الإجابة (المتهرّبة) ، التي سمعتها من مساعد الطبيب ، و من الطبيب ، كررتها عليها . ردّت بعصبية على إجابتي ، غير المقنعة .

لم يكن لدي ، ما أرد به ، و أنا ألقي بنظري عليه ، و أحس أن برزخا هائلا ، بدأ يتشكل .. و يفصل بيننا . قلبي يناديه من الأعماق .. يصرخ ، و يمد يدا ، لكنه لا يسمعني ، و لا يستجيب .. أو هو لا يقدر . أنا أهوي في لجّة حزن ، و يضيق الأفق نحوه ، حتى يغدو مساما .. و هو يترقّى في ملكوت . تمتصني الوحشة ، و الشعور بالفقد .. إلى حضيض ، فينتفض قلبي ، و يجأر برجاء :
- اللهم اجمعنا في ملكوتك ، مع الغائب الحاضر .. (أبي عبد الرحمن) ، الذي صنع رحيله الملحمي ، الصدع الأول ، في القلب الكبير .

افتعلت موقفا ، لأتقي (نصال) أسئلة أختي .. و اتجهت لمكتب رئيسة التمريض . وقفتُ قليلا أمامه ، أطرح على الممرضة أسئلة مفتعلة .. ثم غافلتها و خرجت . أبقيت جوالي مغلقا لفترة .. حتى لا تطاردني الأسئلة . لم يعد في القلب قدرة ، لاستقبال مزيد من التساؤلات (الجارحة ) ، ففؤادي في غشاء من نصالها .

صرت أنتظر الغد ، بانتظار قلب لم يعد قادراً ، على أن ينتظرني . الغد الذي أتطلع أن (يقربني) ، من حبيب ، أراه كل يوم (يبتعد) .. لتهبط من بعده جيوش الوحشة و الظلام .


الاثنين 18 رمضان 1425 هـ :
فجر الاثنين .. يعني أنه مضى أكثر من 72 ساعة على إغماءته .. و بداية رحلة الغياب الطويل . كان الطبيب قد قال لي في اليوم الأول ، أن أي حالة صحية حرجة ، لا تستمر أكثر من 72 ساعة ، في الغالب . يتضح بعدها ، في أي اتجاه يسير الوضع الصحي للمريض . اتصلت في العاشرة .. كالمعتاد ، و جاءني الرد التقليدي :
- وضعه مستقر ، لم يتغير شي .. لكن حدثت مشكلة في الضغط ، الطبيب يستطيع أن يشرح لك .

مررتُ عليه بعد العصر ، في موعد الزيارة الأول .. بدا ساكنا . نظرتُ إلى جهاز الضغط ، كانت القراءة تتراوح بين (69-71) . أقل من أمس بدرجتين . سألتُ الممرضة .. فَتَمَعّنت في البيان الذي بين يديها ، و قالت أنه تعرض لأزمة هذا الصباح ، حيث نزل ضغطه إلى حدود الـ(60) . لم أشأ أن أطلب الطبيب .. في عينيه صرت أقرأ الحقيقة ، التي يحاول ان يخفيها عني :
والدك يحتاج إلى معجزة ..! أمس .. قالها صريحة ، لقد أصبح في وضع المساندة القصوى .. (المَاكْسِيمَمْ سَبّوُرتْ) ..
خرجت من عنده ، و بدأت أفكار الغياب و الرحيل .. تسيطر عليّ .

جئتُ الوالدة بعد المغرب .. سلمتُ عليها ، و سألتني عنه . أخبرتها أن حالته لم تتغير ، ثم رويتُ حوارا (اختلقته) ، بيني و بين الطبيب . قلتُ لها أن الطبيب يقول : عليـــــكم أن تؤمنوا أن العلاج ، ليس إلا سبباً .. لا يصنع شيئا ، أمام أمر قد قضاه الله . كنتُ أريد تهيئتها ، لأمر أراه .. و لا أستطيع أن أبوح به .
كانت متعبة جدا .. خلال اليومين السابقين . آلام الروماتيزم تعذبها ، و تضغط على عظامها ، التي أعياها السكر .. فوق عذابات السنين ، التي فتّت فؤادها الغض . فاجأتني أنها تصر على أن تراه الليلة ، رغم إلحاحي عليها بالراحة ، حتى لا تحصل لها مضاعفات .

في المساء .. كنتُ عنده ، أنا و الوالدة ، و بعض الأخوات . نَظَرتْ إليه .. لكنها لم تقف عنده كثيرا ، و قالت بصوت ممتليء تعباً ، أنّها ترغب بالمغادرة . في الطريق إلى السيارة ، كانت صامتة ، و حينما ركبت .. علا نشيجها ، و هي تردد :
- بعدك علوم يا أبو محمد .. الله يلطف بك و بنا ..!

هل استشعرت الرحيل القادم ، و جاءت تلقي النظرة الأخيرة ..؟ لم أر امرأة تحب رجلا ، مثل حب أمي لأبي .. دون أن تصوغ في ذلك قصيدة . كنت أقرأ في عينيها ، و هي تنظر إليه .. أجمل القصائد . قاسمته الحياة بأفراحها و أتراحها .. و حين تعاقب عليهما البلاء ، في السنوات العشر الأخيرة ، كنت أعجب منهما كِلَيهِما : صبرهُ الجبار ، و رضاها بالقدر . كلما اشتد عليه البلاء .. زاد تماسكا ، و كلما اشتد عليها البلاء .. زادت شفافية ، حتى أكاد أجزم ، أني ارى بعينيّ.. قلبها موصولاً بالسماء .

الثلاثاء 19 رمضان 1425 هـ :

عصر يوم الاثنين ، كان قد هاتفني أحد الأصدقاء ، و دعاني إلى لقاء في منزل أحــد الأعيان ، على شرف شخصية ثقافية من دولة عربية . لم أكن مستعدا نفسيا ، للقاء مثل هذا .. و اعتذرت . والدي يملأ قلبي و خاطري .. فكيف أستطيع الحضور ، و المشاركة ..؟ أصرّ عليّ .. بحجة أن حضوري مهم ، و أن صاحب المنزل ، حريص على حضوري .

أوصلتُ والدتي للبيت ، بعد خروجنا من المستشفى ذاك المساء ، و توجهت إلى منزل صاحب الدعوة . كانت الساعة تقترب من منتصف الليل .
في منزل المضيف ، انهمكنا في نقاش ، حول هموم (وطنية) ,, و قضايا (الإصلاح) ، التي أصبحت مطلبا على مختلف الصعد . يتفق الجميع على أهمية ، ووجوب الشروع بتنفيذها .. و تختلف الرؤى .
كنتُ أتحدث ، و قلبي هناك .. في المستشفى ، مع رجل .. أنا مدينٌ له بكل شيء .. من شكل (الإنسان) ، إلى معنى (الرجل) ..!
رجلٌ ملأني كرامة و عزة .. و امتلأت بوجوده إلى جانبي ، ثقةً و أملاً ..

في الساعة الواحدة و عشر دقائق ، من صباح الثلاثاء .. دقّ جوالي . تناولته من جيبي ، و صرتُ أتأمل رقم المتصل .. لم أعرفه . وضعتُ نظارة القراءة على عيني ، و تأكدتُ أن الرقم غريب .. ثابت ، و ليس جوالاً . حين أجبت .. جاءني الصوت :
- فلان ..؟
- نعم ..
- معك مركز الأمير سلطان لجراحة القلب .. والدك يمر بوضع حرج ، و نريدك أن تأتي الآن .

تسارعت دقات قلبي ، حين عرّف بنفسه ، و شعرت باضطراب ، لاحظه الحاضرون . طَلَبهُ مني الحضور ، شلّ قدرتي على النهوض للحظات ، و أحسستُ كأن قلبي سقط من مكانه ، فوضعت يدي أسفل صدري .
قطعتُ حديثا ، كان يجري ، و طلبتُ الإذن من مضيفي .. بالإنصراف :
- هناك اتصال من المستشفى .. يجب أن أذهب .

قدتُ سيارتي باتجاه المستشفى . عشرات الأسئلة .. جالت بخاطري . استبعدتُ فكرة (الموت) .. تماما . العاملون في المستشفيات ، تبلدت أحاسيسهم تجاه الموت ، من حيث هو (حدث) يصدم أصحاب العلاقة . تعاملهم مع حالات موت يومية ، جعلتهم يظنون – دون سوء قصد – أن الناس مثلهم ، يواجهون ( الموت ) كل يوم .. فلم يعودوا يبالون ..! العاملون في المستشفى ... يتبع

د: محمد الحضيف .


توقيع عبيراليمن

طواه الردى عني فأضحى مزاره..
بعيدا على قرب , قريبا على بعد.
ألح عليه النزف حتى أحاله..
إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد.
وظل على الأيدي تساقط نفسه..
ويذوي كما يذوي القضيب من الرند.
عجبت لـ قلبي كيف لم ينفطر له..
ولو أنه أقسى من الحجر الصلد!
هل العين بعد السمع تكفي مكانه..
أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي!