الطرق خالية . هل استوحشته المدينة مثلي ، فَخَفَتَتْ فيها الحركة ، وَخَفَت بها نبض الحياة .. مثلما هو الفراغ ، الذي بدأت أشعر به ، مثل هوّة سحيقة ، تتشكل في وجداني ، تهوي في قعرها ، معاني الرغبة في الحياة ,
بعــد الظهر اتصلت ، ردت ممرضة .. أعطيتها اسمه ، ورقم الملف الطبي ، وسألت عنه :
- لم يتغير شيء .. حالته ما زالت حرجة . من المستحسن أن تسأل الدكتور .. يكون موجوداً أثناء وقت الزيارة .
سألتها عن وقت الزيارة ، فأجابت ، أنها في الساعة الثالثة والنصف عصراً .. إلى الرابعة . جئت في وقت الزيارة .. سألت عنه ، فقالوا إنه في السرير رقم ( 9 ) . كانت الأجهزة هي التي تعمل ، وجوارحه تَبَعٌ لها . جسده ساكن ، وعيناه مغمضتان . لم يكن ثَمّةَ ( حياة ) .. إلا صدرٌ يعلو ويهبط ، موصول بعدد غير محدود من الأسلاك والأنابيب .
خاطبت الممرضة الجالسة إلى جانب السرير ، تدوّن ملاحظاتها عن عمل الأجهزة ، في بيان متعدد الخانات :
- أريد أن أسأل الطبيب عن حالته ..
- سأعمل له نداء .. ليأتي .
جاء الطبيب .. وذكر كلاماً عاماً ، لم يقنعني . أمام إلحاحي .. قال :
- ضغطه منخفض .. ( 70 ) كما ترى . يجب أن يرتفع فوق ( 90 ) .. ليتجاوز مرحلة الخطر . هناك التهاب في الصدر .. أضعف القلب ، وساهم في أزمته ، التي أدت إلى انخفاض الضغط . البكتيريا قوية ، ونحن نحاول أن نقاومها ، بإعطائه مضادين حيويين .
- .........................
- الأدوية .. صحيح أنها تعالج ، لكن لها مضاعفات . تؤثر في حموضة الدم ، وهذا له ..
لاحظ أنه قد بدأ يدخلني في متاهات الأدوية ، عندما بدأت اقلب نظراتي ، بينه وبين الوالد .. فتوقف .
في المساء .. جئت في وقت الزيارة الثاني ، العاشرة والنصف . ما زال في (غيبوبة ) .. جسده فقط . روحه كانت تحوم في المكان . في جسد كل من أحاط بالسرير ، من بناته ، وأبناء بناته ، وأبناء أولاده .. قبس منها .
الوالدة وقفت إلى جانب سريره ، كأني بها تنادي .. ولا رجع صدى . في عينيها حديث طويل ، عبّرت عنه رعشة كفها ، وهي تضعها على جسده .. عند كتفه العاري .. تتحسس نبض الحياة ، لرجل طالما منحها الأمان .. و تَحَسَّتْ في كنفه طعم الرجــــولة . بدت .. بجـــــــــسمها الصغير ، وهـــــــــــي تنحني عليه ، مثل حـــــــــــمامة مبتـــــــــلة ، واقفة عــلى باب وكرها .. غادرها شريكها ، في ليلة سوداء شاتية ، مطيرة .. وحيدة لها نواح .
السبت 16 رمضان 1425هـ :
هذا صباح آخر .. يمضي بدونك ..
أعتدت أن أمر عليه كل صباح ، أو أغلب أيام الأسبوع . الساعة العاشرة ، حين اتصلت أسأل عنه .. كان قد مرّ أكثر من 30 ساعة ، على دخوله حالة اللاوعي . ذكرت الممرضة ، أن حاله كما هي لم تتغير .. ما زالت حرجة ، وإن كانت تنحو نحو الاستقرار . ثم قالت كلاماً لم أتبيّنه ، بسبب حديثها بلغة إنجليزية ، تغلب عليها لهجتها المحلية .
جـئت في موعد الزيارة الأول . وجدتهم يحيطون به .. الطبيب ، وعدد من المساعدين ، والممرضات . كانوا يتهيأون لنقله . سألت الطبيب عن الأمر ، فأجاب أن ضربات القلب غير منتظمة .. مما سبب له أزمة جديدة ، وأنه سيأخذه إلى غرفة العمليات ، لوضع منظم يضبط حركة القلب ، ويمنع تكرار المشكلة .
ألقيت عليه نظرة ، وهممت أن أقبل جبينه .. لكن الممرضة دفعت السرير ، باتجاه المخــــرج ، الذي يـــــــــؤدي لغرفة العمليات . سِرْتُ إلى جانب السرير ، وأنا أتأمله : كم ذا .. لُذْتُ بهذا الصــــــــدر العامر ، الذي أصبح مرتعاً للألم .. ولأجهزة تمنحه الأمل .. بــ ( حياة ) . القلب الذي كان ( الأمل ) ، و( الحياة ) لكثيرين .. يفرّون إليه من الألم ، صار ( يلوذ ) بجهاز ، يمنحه ( حياة ) ، ليمنح ( الأمل ) لآخرين ..
في المساء لم يتغير شيء . أخبرني طاقم التمريض ، أن الجهاز .. منظّم ضربات القلب ، الــــــذي تم غرسه في صدره ، يعــــــــمل بشكل جيد . وجدت عنده طبيب مقيم .. ( متدرب ) . دفعني القلق لأسأله .. فضاعفت إجاباته خوفي وقلقي :
- ضغطه منخفض ، وهذا يجعل حالته حرجة . نسعى لتنشيط القلب ، من خلال الأدوية ، ليرتفع الضغط .. لأن انخفاض الضغط ، يؤدي إلى فشل وظائف بعض أعضاء الجسم الأخرى .. مثل الكُلى ..
انتشر خبر إصابته ، فكثرت الاتصالات .. تسأل عنه . صرت أضيق ببعضها .. وأتحاشاها ، خصوصاً تلك التي تسأل عن تفاصيل الحالة . لم أعد قادراً على أن أقول ، أكثر من : حالته حرجة .. ويحتاج الدعاء .
بعض اتصالات شقيقاتي ، كانت تؤلمني .. تُوغِلْ في طلب الشرح والتفصيل ، فيتوغّل الوجع في داخلي . كنت أراه في كــــل يوم .. ( يبتعد ) أكثر ، لكني لا أستطيع أن أقول ذلك . حينما أزوره ، وأضع كفي على جبينه ، أو يده .. كنت أقاوم شعوراً موحشاً بالفقد ، بدأ يخــــــــــــترقني . كنـــــــت أخدع ( الطفل ) في داخلي ، الذي يتعلق بالمحسوس .. دليلاً على الوجود . كنت أضع عنواناً ( وهمياً ) .. لروح دخلت في التيه .. إذ يرحل ملهمها و دليلها .
الأحد 17 رمضان 1425هـ :
الصباح الثالث .. مضى الآن أكثر من 50 ساعة ، وأنا ( وحيد ) . اتصلت كالمعتاد ، في حدود الساعة العاشرة . جاء رد الممرضة روتينياً : حالته مستقرة ، لم يتغير شيء .
- هل ما زالت حالته .. تعد حرجة ..؟
- نعم ..
كيف تكون إذاً مستقرة .. تساءلت ؟ ارتبط ( الاستقرار ) في ذهني ، بوصفه مفهوماً ، وحالة ايجابية . صرت أكره أن أسمع كلمة ( مستقرة ) ، أو ( Stable ) .. كلما اتصلت ، أو سألت عنه . حالته حرجة ، وتكون مستقرة .. معادلة عجزت أن أقبلها .
في العصر ، موعد الزيارة الأول .. جئت . أسحب خطاي ، داخل وحدة العناية المركزة .. باتجاه السرير رقم ( 9 ) . المرضى على يميني ويساري .. ساكنون . لاحظت أن المريض ، لا يكون مستقلاً بسرير وحده ، ليس معه أحد ، يشاركه ( الغــــرفة ) ، إلا إذا كانت حالته .. تستدعي مراقبة لصيقة ، كما هي حاله . في وحدة العناية المركزة ، ليس ثمة غرف . هناك مساحات ، تقسّم ، وتغلق بستائر ، تقوم بدور القواطع والأبواب . لا يوحي هذا الوضع بــ ( حميمية ) من أي نوع ، مقابل الجــــــدران والأبواب الصلبة .. ( الجامدة ) . أحسها تعبيراً ، عن حالة مفادها .. أن :
كُــــــــــلّ شيء هنا .. عابر ، كل شيء مؤقت ..!
حين وصلت إلى ( المساحة ) .. حيث يوجد السرير رقم ( 9 ) ، كانت الستارة ، نصف مغلقة . ما أن دخلت ، حتى ( صفع ) ناظري ، منظر لجهاز كبير ، بلون أصفر باهت . فاجأني .. و أنا استَقْبَحْتُه . وجه الجهاز مليء بالأزرار ، والشاشات الدائرية الصغيرة . اللافت فيه .. اسطوانة بلاستيكية شفافة صغيرة ، مملوءة بسائل .. كأنه دم ، ترتبط من الجهـــتين بأنبوب بلاستيكي . واحد متصل بالجهاز ، والآخر يخرج من تحت الملابس ، التي وضعت على جسده .
شعرت بألم يعصر قلبي ، وجالت في خاطري أفكار حزينة . لم أشك لحظة ، بعد رؤيتي للجهاز ، بأن المحذور قد وقع . حاولت بأن أكذب ظني .. وبدايات نحيب ، شرعت تتعالى في أعماقي : ليل الرحيل ، هل آذن بالقدوم ..؟
سألت الممرضة :
- ما هذا ..؟!
- جهاز ( ديلزة ) ..
إذن بدأ غسيل الدم ..! هُرِعْتُ إلى رئيسة التمريض ، أسألها أن تطلب لي الطبيب . صرت أتأمل الجهاز ، وألقي نظرة .. على جسد صاحب القلب الكبير : ها هو جهاز آخر ، يضاف إلى منظومة ( نظام المساندة ) .. ليبقيك حياً .
تأخر الطبيب . كان هناك شخص يروح ويجيء ، بين مكتب التمريض ، والأجهزة المرتبطة بالجسد المسجّى . معطفه الأخضر ، أوحى لي .. بأنه قد يكون مساعداً للطبيب . سألته عن الجهاز .. فقال :
- لتنقية الدم ..
- كــــــــــــــيف ؟
- بعض أجهزة الجسم ، لا تقوم بوظائفها على النحو المطلوب . البــــكتيريا أدت إلى حدوث تسمم في الدم ، والجهاز يساعد على التخلص من السموم .
نادته الممرضة .. فذهب . تحركه السريع نحوها ، بدا وكأنه فرصة وجدها ، ليتخلص من تساؤلاتي ، أكثر من رغبته في استطلاع الأمر ، الذي تدعوه من أجله .
عدت للسرير أتأمله ، وأحدّق في الجهاز ، محاولاً فهم الأرقام والمعلومات ، التي تتبدل على شاشاته الصغيرة . الخوف عاد يقرع أبواب قلبي .. حين ألقيت نظرة على صاحب القلب الكبير ، وبدأت أحسب عدد الأجهزة ، المرتبط جسده بها .
جاء الطبيب ، اعتذر عن التأخير .. ثم بادرني :
- لعلك تسأل عن الجهاز .. ؟
- ليس الجهاز فقط يا دكتور .. كيف حاله ؟
- انخفاض الضغط يؤثر على عمل وظائف الجسم . هناك ( فشل ) في وظائف الكلى و الكبد ، لذلك تم اللجوء إلى الجهاز .. لتخليص ... يتبع
د: محمد الحضيف .