عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 1  ]
قديم 2006-11-23, 10:10 AM
عبيراليمن
عضو جديد
رقم العضوية : 9634
تاريخ التسجيل : 24 - 9 - 2005
عدد المشاركات : 92

غير متواجد
 
افتراضي رحـــــــلة ( القــلب ) .. الأخيرة ..! - 2
الطرق خالية . هل استوحشته المدينة مثلي ، فَخَفَتَتْ فيها الحركة ، وَخَفَت بها نبض الحياة .. مثلما هو الفراغ ، الذي بدأت أشعر به ، مثل هوّة سحيقة ، تتشكل في وجداني ، تهوي في قعرها ، معاني الرغبة في الحياة ,

بعــد الظهر اتصلت ، ردت ممرضة .. أعطيتها اسمه ، ورقم الملف الطبي ، وسألت عنه :
- لم يتغير شيء .. حالته ما زالت حرجة . من المستحسن أن تسأل الدكتور .. يكون موجوداً أثناء وقت الزيارة .

سألتها عن وقت الزيارة ، فأجابت ، أنها في الساعة الثالثة والنصف عصراً .. إلى الرابعة . جئت في وقت الزيارة .. سألت عنه ، فقالوا إنه في السرير رقم ( 9 ) . كانت الأجهزة هي التي تعمل ، وجوارحه تَبَعٌ لها . جسده ساكن ، وعيناه مغمضتان . لم يكن ثَمّةَ ( حياة ) .. إلا صدرٌ يعلو ويهبط ، موصول بعدد غير محدود من الأسلاك والأنابيب .
خاطبت الممرضة الجالسة إلى جانب السرير ، تدوّن ملاحظاتها عن عمل الأجهزة ، في بيان متعدد الخانات :
- أريد أن أسأل الطبيب عن حالته ..
- سأعمل له نداء .. ليأتي .

جاء الطبيب .. وذكر كلاماً عاماً ، لم يقنعني . أمام إلحاحي .. قال :
- ضغطه منخفض .. ( 70 ) كما ترى . يجب أن يرتفع فوق ( 90 ) .. ليتجاوز مرحلة الخطر . هناك التهاب في الصدر .. أضعف القلب ، وساهم في أزمته ، التي أدت إلى انخفاض الضغط . البكتيريا قوية ، ونحن نحاول أن نقاومها ، بإعطائه مضادين حيويين .
- .........................
- الأدوية .. صحيح أنها تعالج ، لكن لها مضاعفات . تؤثر في حموضة الدم ، وهذا له ..
لاحظ أنه قد بدأ يدخلني في متاهات الأدوية ، عندما بدأت اقلب نظراتي ، بينه وبين الوالد .. فتوقف .

في المساء .. جئت في وقت الزيارة الثاني ، العاشرة والنصف . ما زال في (غيبوبة ) .. جسده فقط . روحه كانت تحوم في المكان . في جسد كل من أحاط بالسرير ، من بناته ، وأبناء بناته ، وأبناء أولاده .. قبس منها .
الوالدة وقفت إلى جانب سريره ، كأني بها تنادي .. ولا رجع صدى . في عينيها حديث طويل ، عبّرت عنه رعشة كفها ، وهي تضعها على جسده .. عند كتفه العاري .. تتحسس نبض الحياة ، لرجل طالما منحها الأمان .. و تَحَسَّتْ في كنفه طعم الرجــــولة . بدت .. بجـــــــــسمها الصغير ، وهـــــــــــي تنحني عليه ، مثل حـــــــــــمامة مبتـــــــــلة ، واقفة عــلى باب وكرها .. غادرها شريكها ، في ليلة سوداء شاتية ، مطيرة .. وحيدة لها نواح .

السبت 16 رمضان 1425هـ :
هذا صباح آخر .. يمضي بدونك ..
أعتدت أن أمر عليه كل صباح ، أو أغلب أيام الأسبوع . الساعة العاشرة ، حين اتصلت أسأل عنه .. كان قد مرّ أكثر من 30 ساعة ، على دخوله حالة اللاوعي . ذكرت الممرضة ، أن حاله كما هي لم تتغير .. ما زالت حرجة ، وإن كانت تنحو نحو الاستقرار . ثم قالت كلاماً لم أتبيّنه ، بسبب حديثها بلغة إنجليزية ، تغلب عليها لهجتها المحلية .

جـئت في موعد الزيارة الأول . وجدتهم يحيطون به .. الطبيب ، وعدد من المساعدين ، والممرضات . كانوا يتهيأون لنقله . سألت الطبيب عن الأمر ، فأجاب أن ضربات القلب غير منتظمة .. مما سبب له أزمة جديدة ، وأنه سيأخذه إلى غرفة العمليات ، لوضع منظم يضبط حركة القلب ، ويمنع تكرار المشكلة .
ألقيت عليه نظرة ، وهممت أن أقبل جبينه .. لكن الممرضة دفعت السرير ، باتجاه المخــــرج ، الذي يـــــــــؤدي لغرفة العمليات . سِرْتُ إلى جانب السرير ، وأنا أتأمله : كم ذا .. لُذْتُ بهذا الصــــــــدر العامر ، الذي أصبح مرتعاً للألم .. ولأجهزة تمنحه الأمل .. بــ ( حياة ) . القلب الذي كان ( الأمل ) ، و( الحياة ) لكثيرين .. يفرّون إليه من الألم ، صار ( يلوذ ) بجهاز ، يمنحه ( حياة ) ، ليمنح ( الأمل ) لآخرين ..

في المساء لم يتغير شيء . أخبرني طاقم التمريض ، أن الجهاز .. منظّم ضربات القلب ، الــــــذي تم غرسه في صدره ، يعــــــــمل بشكل جيد . وجدت عنده طبيب مقيم .. ( متدرب ) . دفعني القلق لأسأله .. فضاعفت إجاباته خوفي وقلقي :
- ضغطه منخفض ، وهذا يجعل حالته حرجة . نسعى لتنشيط القلب ، من خلال الأدوية ، ليرتفع الضغط .. لأن انخفاض الضغط ، يؤدي إلى فشل وظائف بعض أعضاء الجسم الأخرى .. مثل الكُلى ..

انتشر خبر إصابته ، فكثرت الاتصالات .. تسأل عنه . صرت أضيق ببعضها .. وأتحاشاها ، خصوصاً تلك التي تسأل عن تفاصيل الحالة . لم أعد قادراً على أن أقول ، أكثر من : حالته حرجة .. ويحتاج الدعاء .
بعض اتصالات شقيقاتي ، كانت تؤلمني .. تُوغِلْ في طلب الشرح والتفصيل ، فيتوغّل الوجع في داخلي . كنت أراه في كــــل يوم .. ( يبتعد ) أكثر ، لكني لا أستطيع أن أقول ذلك . حينما أزوره ، وأضع كفي على جبينه ، أو يده .. كنت أقاوم شعوراً موحشاً بالفقد ، بدأ يخــــــــــــترقني . كنـــــــت أخدع ( الطفل ) في داخلي ، الذي يتعلق بالمحسوس .. دليلاً على الوجود . كنت أضع عنواناً ( وهمياً ) .. لروح دخلت في التيه .. إذ يرحل ملهمها و دليلها .

الأحد 17 رمضان 1425هـ :

الصباح الثالث .. مضى الآن أكثر من 50 ساعة ، وأنا ( وحيد ) . اتصلت كالمعتاد ، في حدود الساعة العاشرة . جاء رد الممرضة روتينياً : حالته مستقرة ، لم يتغير شيء .
- هل ما زالت حالته .. تعد حرجة ..؟
- نعم ..

كيف تكون إذاً مستقرة .. تساءلت ؟ ارتبط ( الاستقرار ) في ذهني ، بوصفه مفهوماً ، وحالة ايجابية . صرت أكره أن أسمع كلمة ( مستقرة ) ، أو ( Stable ) .. كلما اتصلت ، أو سألت عنه . حالته حرجة ، وتكون مستقرة .. معادلة عجزت أن أقبلها .

في العصر ، موعد الزيارة الأول .. جئت . أسحب خطاي ، داخل وحدة العناية المركزة .. باتجاه السرير رقم ( 9 ) . المرضى على يميني ويساري .. ساكنون . لاحظت أن المريض ، لا يكون مستقلاً بسرير وحده ، ليس معه أحد ، يشاركه ( الغــــرفة ) ، إلا إذا كانت حالته .. تستدعي مراقبة لصيقة ، كما هي حاله . في وحدة العناية المركزة ، ليس ثمة غرف . هناك مساحات ، تقسّم ، وتغلق بستائر ، تقوم بدور القواطع والأبواب . لا يوحي هذا الوضع بــ ( حميمية ) من أي نوع ، مقابل الجــــــدران والأبواب الصلبة .. ( الجامدة ) . أحسها تعبيراً ، عن حالة مفادها .. أن :
كُــــــــــلّ شيء هنا .. عابر ، كل شيء مؤقت ..!

حين وصلت إلى ( المساحة ) .. حيث يوجد السرير رقم ( 9 ) ، كانت الستارة ، نصف مغلقة . ما أن دخلت ، حتى ( صفع ) ناظري ، منظر لجهاز كبير ، بلون أصفر باهت . فاجأني .. و أنا استَقْبَحْتُه . وجه الجهاز مليء بالأزرار ، والشاشات الدائرية الصغيرة . اللافت فيه .. اسطوانة بلاستيكية شفافة صغيرة ، مملوءة بسائل .. كأنه دم ، ترتبط من الجهـــتين بأنبوب بلاستيكي . واحد متصل بالجهاز ، والآخر يخرج من تحت الملابس ، التي وضعت على جسده .
شعرت بألم يعصر قلبي ، وجالت في خاطري أفكار حزينة . لم أشك لحظة ، بعد رؤيتي للجهاز ، بأن المحذور قد وقع . حاولت بأن أكذب ظني .. وبدايات نحيب ، شرعت تتعالى في أعماقي : ليل الرحيل ، هل آذن بالقدوم ..؟
سألت الممرضة :
- ما هذا ..؟!
- جهاز ( ديلزة ) ..

إذن بدأ غسيل الدم ..! هُرِعْتُ إلى رئيسة التمريض ، أسألها أن تطلب لي الطبيب . صرت أتأمل الجهاز ، وألقي نظرة .. على جسد صاحب القلب الكبير : ها هو جهاز آخر ، يضاف إلى منظومة ( نظام المساندة ) .. ليبقيك حياً .

تأخر الطبيب . كان هناك شخص يروح ويجيء ، بين مكتب التمريض ، والأجهزة المرتبطة بالجسد المسجّى . معطفه الأخضر ، أوحى لي .. بأنه قد يكون مساعداً للطبيب . سألته عن الجهاز .. فقال :
- لتنقية الدم ..
- كــــــــــــــيف ؟
- بعض أجهزة الجسم ، لا تقوم بوظائفها على النحو المطلوب . البــــكتيريا أدت إلى حدوث تسمم في الدم ، والجهاز يساعد على التخلص من السموم .
نادته الممرضة .. فذهب . تحركه السريع نحوها ، بدا وكأنه فرصة وجدها ، ليتخلص من تساؤلاتي ، أكثر من رغبته في استطلاع الأمر ، الذي تدعوه من أجله .

عدت للسرير أتأمله ، وأحدّق في الجهاز ، محاولاً فهم الأرقام والمعلومات ، التي تتبدل على شاشاته الصغيرة . الخوف عاد يقرع أبواب قلبي .. حين ألقيت نظرة على صاحب القلب الكبير ، وبدأت أحسب عدد الأجهزة ، المرتبط جسده بها .

جاء الطبيب ، اعتذر عن التأخير .. ثم بادرني :
- لعلك تسأل عن الجهاز .. ؟
- ليس الجهاز فقط يا دكتور .. كيف حاله ؟
- انخفاض الضغط يؤثر على عمل وظائف الجسم . هناك ( فشل ) في وظائف الكلى و الكبد ، لذلك تم اللجوء إلى الجهاز .. لتخليص ... يتبع
د: محمد الحضيف .


توقيع عبيراليمن

طواه الردى عني فأضحى مزاره..
بعيدا على قرب , قريبا على بعد.
ألح عليه النزف حتى أحاله..
إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد.
وظل على الأيدي تساقط نفسه..
ويذوي كما يذوي القضيب من الرند.
عجبت لـ قلبي كيف لم ينفطر له..
ولو أنه أقسى من الحجر الصلد!
هل العين بعد السمع تكفي مكانه..
أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي!