ثم قال:
(والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون).
وذكر الإشفاق من العذاب مناسب لجو السورة أيضاً، فإن السورة مشحونة بذكر العذاب والكلام عليه فقد بدئت السورة به وختمت به، فقال في أول السورة: (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع)، وقال في خاتمتها: (خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة) كما ذكر فيها مشهداً آخر من مشاهد العذاب، فقال: (يود المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤيه ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى).
فاختيار الإشفاق من العذاب أنسب اختيار ههنا.
ولا شك أن الذين يصدقون بيوم الدين، ويخشون عذاب ربهم مستثنون معافون من صفة الهلع. فالتصديق بيوم الدين مدعاة للطمأنينة والأمن في النفوس، فهو يصبر إذا مسه الشر احتساباً لأجر مما فقد أو مما ابتلي به، وإذا مسه الخير، لا يمنع، لأن الله سيعطيه أضعاف ما يعطي.
ثم قال بعد ذلك:
(والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون)
وقد مر تفسير ذلك في آيات سورة (المؤمنون) فلا حاجة إلى إعادة ما مر.
غير أن الذي نقوله ههنا: إن هذه الآيات مرتبطة بما قبلها أجمل ارتباط وهي مع ما ذكر معها من الأوصاف منجاة من الهلع وعلاج له.
ذلك أن الذي يصبر على شهوته ولا يندفع وراء رغبته يعود نفسه على الصبر، فلا يجزع إذا رأى ما يستثير ثم لا يهلث وراءها حتى يهتبل هذه الفرصة للتلذذ بها.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية إن حفظ الفروج وعدم إرسالها إلا على مستحقيها، أولى من حفظ المال وكنزه ومنع مستحقه منه.
ثم قال:
(والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون)
وقد مر ذلك في آيات سورة (المؤمنون)
وهذا علاج للهلع أيضاً، ذلك أن الأمانة والعهد ربما يلحقان بالمؤتمن ضرراً من سلطة أو متنفذ، ذلك لأن صاحب الأمانة قد يكون مطلوباً لهما فالمؤتمن كأنه يعينه على ما هو عليه أو لغير ذلك من الأسباب وقد يفوتان عليه خيراً كبيراً، وهو مع ذلك يفي بالعهد ويؤدي الأمانة موطناً نفسه على الصبر على ما سيحيق به محتسباً أجر ما يفوته من الخير العاجل عند الله ولا شك أنة هذا مما يكسر الهلع ويضعفه ويعافي منه.
ثم قال: (والذين هم بشهاداتهم قائمون)
"والشهادة من حملة الأمانات وخصها من بينها، إبانة لفضلها لأن في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها وفي زيها تضييعها وإبطالها"[53].
والقيام بالشهادة معناه: إقامتها على "ومن كانت عليه من قريب أو بعيد، أو رفيع أو وضيع، ولا يكتمونها ولا يغيرونها"[54] ولا يخفون ما علموه منها.
والإتيان بها مجموعة إشارة "إلى اختلاف الشهادات وكثرة ضروبها، فحسن الجمع من جهة الاختلاف"[55].