هذهِ القصةُ واقعية ، حدثت لصديقتي في يومِ الأربعاء الموافق 23/1/1432هـ ، طرحتها لكم بعدَ أن أعدتُ صياغتها لأخذِ الحيطة من أمثالِ أولائكَ من أولي النفوسِ الضعيفة ، وعظةً وعبرة ..
انتهت محاضرة اللغة الانجليزية عندَ الحاديةِ عشرة صباحاً ..
خرجتُ معَ رفيقتي نتمشّى في أروقةِ الجامعة إلى حين إقبالِ المحاضرةِ التالية بعدَ ساعتينِ من الآن ، ولكنّ يبدو أنّ الأجواءَ المخيفةَ ستعيقُ حضورنا ، السماءُ ملبّدةُ بالغيومِ الرعديةِ الركاميةِ المسودّة ، والكلُّ يرمقها بينَ الفينةِ والأخرى في توجّس ، وما هيَ إلا لحظات حتّى توالت علينا الاتصالات بانهمارِ الأمطارِ في مناطقَ من جُدّة ، لم ننتظر طويلاً حتّى وصلتِ الغيومُ المحمّلةُ بالخيراتِ إلى حيثُ بقعةِ جامعتنا ، قطرةٌ تتلوها قطرة ، حتى امتلأت الشوارعُ بالمياه ، الكلُّ يلوذُ هارباً خارجَ الجامعةِ إلى منازلهم ، أخذتُ هاتفيَ النقال واتصلتُ على والدتي هرعة :
- السلام عليكم ..
- وعليكم السلام ..
- لقد انهمرتِ الأمطارُ عندنا في الجامعةِ يا أمي ، لترسلي لي والدي فالمياهُ أغرقتِ الشوارعَ وكستِ الأروقة ، والكلُّ قد لاذَ مذعوراً ..
- حسناً سأرسلُ والدكِ حالاً ، انتبهي على نفسك ..
دخلتُ حجرةَ الانتظارِ بينَ تلكَ الوفودِ المُؤلّفة ، وبالكادِ عثرتُ على موضعٍ أقفُ فيه ، فتارةً تدفعني هذه ، وتارةً تدعسُ على قدمي تلك ، وتارةً أخرى أختنقُ بينَ أولائك ، والوضعُ الرهيبُ يزيدُ القلبَ رهبةً وخوفاً ، ولم يهدأ قلبي حتى رنّ هاتفي النقال ، رددتُ على والدتي :
- كيفَ هيَ الأوضاعُ عندكُمُ الآن يا ابنتي ؟
- إنها تزدادُ سواءً ..
- إنا لله ، لتركبي مع أيّ سائق أجرةٍ وتأتي إلى المنزل ، فقد غرقت سيارةُ والدكِ بينَ مياه الأمطار وعجزَ عن إخراجها ..
- لا حولَ ولا قوّة إلا بالله ، ولكن لا أستطيع المجيءَ وحدي !
- ما من حلٍّ غير ذا ، فلا أحدَ يستطيع الخروج في هذا الوقتِ المخيف ..
- ( بضجر ) حسناً حسناً ، كان الله في عوني ..
أغلقتُ الهاتفَ وأنا لستُ مرتاحةً لما سأقبلُ عليه ، ولكن وكما قالت والدتي ما من حلٍّ بديل ، زاحمتُ الأفواجَ اللائذة ، ووقفتُ على قارعةِ الطريق أتأملُ سائقي سياراتِ الأجرة ، فبدا لي الجميع ذووا جنسيةٍ ” سعودية ” ، توكلتُ على الله وتوجهتُ نحوَ أحدهم ، سألتهُ عن الأجرة إلى حيث منزلي فقال أنها ستكلف 20 ريالاً ، فلم أجد في ذلك بأس ، المهمُّ أن أصلَ إلى بيتي سالمة ..
تحركت السيارة ، وقد كانَ في قمّة احترامهِ بادئاً مما بعثَ في نفسيَ الأمانَ ، ولكن ما إن خرجَ من حرمِ الجامعةَ حتى كشفَ عن نواجذهِ وأبدى حقيقته ، فأخذَ يحكي عن قصةِ حياتهِ بأنهُ من مكة ، وأهلهُ يعيشون هناك ، ولديهِ شقةٌ هنا ، وأنّ عندهُ حبيبةٌ يحبّها ، ثمّ يلتفتُ لينظرَ إليّ وهوَ يحكي لي سيرته ، كانَ وقحاً إلى درجةٍ أثارت رعبي ، ولوهلةٍ أدلى إليّ بقارورةِ ماءٍ وطلبَ مني النظرَ فيها ، لم ألقِ لهُ بالاً وقلتُ له لا أريد ، إلا أنهُ أصرّ عليّ قائلاً ” شوفي القارورة فيها شفايف حبيبتي ” ..
خفقَ قلبي بشدّةٍ من الخوف ، فأجبته : وما شأني أنا ؟
فأجابَ في حدّةٍ مدافعاً عن حبيبته ” ألله هذي حبيبتي ما أسمح لك تتكلمين عليها ” ، غبياً أخالهُ يفهمُ كلامي مقلوباً ! كانَ يحاولُ استدراجي بأيِّة وسيلةٍ كانت ، ثمَ قالَ لي لتجلسي بجواري ، ولكنني رفضت وبشدة ، فأجابني بأنّ كل الفتيات اللواتي يركبنَ معهُ يجلسنَ بجوارهِ ويكشفنَ عن شعورهنّ ووجوههنّ وطالبني بذلك ، ولكنني أخبرتهُ أنني لستُ مثلهن ، ولكي أقطعَ هذهِ المهزلة وأوقفهُ عندَ حدّهِ اتصلتُ على إحدى قريباتي وطلبتُ منها أن تكونَ معي على الخط حتى أصلَ إلى منزلي ، أثناء محادثتي لها كان يبدو عليه الضيق ، وكأنما يريدني أن أتحدثَ وأتفرغ له وحده ، فأخذَ يرفعُ صوتَ الغناء في المذياع ، ويحشرُ السيارةَ برائحةِ الدخانِ الخانقة ، ثمّ بعدَ ما يقاربُ الساعةَ ونحنُ في الطريق استشارني بالذهابِ إلى ” كافيه ” لندردشَ سويةً ، وإذا ما استجوبني والدي عن سبب التأخرِ أخبرهُ بانّ الطريقَ مليءٌ بالمياهِ ومزدحم ، رفضتُ وبشدّة ، كانتِ العبرةُ تخنقني ، وكنتُ أحاولُ جاهدةً المحافظةَ على هدوء أعصابي ، خشيةَ أن يهربَ بي إزاءَ أية ردةِ فعلٍ مريبة ..
وبعدَ ساعةٍ ونصف وصلنا إلى الدوّارِ الذي إذا ما سرنا أمامه فسوفَ يسوقنا إلى حيثُ منزلي ، فأرادَ أن يخالفَ الطريقَ ويسيرَ يمنةً بحجّةِ حاجتهِ إلى محطةِ وقود ، فازدادَ رعبي وأصررتُ عليهِ والرهبةُ قد بلغت مني مبلغها أن يسيرَ إلى الأمام ، وادّعيتُ أنّ هنالكَ محطةَ وقودٍ وأنا لا علمَ لي بحقيقةِ إن كانَ هنالكَ من محطةٍ أو لا ، فسارَ إلى الأمامِ مرغماً حتى عثرَ على محطة ، ثمّ سألني إن كانت لي حاجةٌ من ” البقالة ” فأشحتُ بوجهي عنه ، وأنا في داخلي أخططُ للهرب وأترقّبُ خروجهُ من السيارة ، ولكنهُ كانَ أمكرَ من الثعلب فأمّنَ أبوابَ السيارةِ وذهب ، عندها انخرطتُ في البكاء من تحتِ غطائي ، وقريبتي تحاولُ تهدئتي ولكنّ خوفي أرجفَ أعضائي وصلّبَ أطرافي ..
وصلتُ – بفضلٍ من الله ومنةٍ – إلى المنزل بعدً ساعتين ، وطلبَ مني أجرةً قدرها 100 ريال ، وكأنما يريدها انتقاماً ! بعدَ أنِ اتفقنا على 20 ريالاً ، لم أشأ مجاراتهُ ومجادلتهُ حتى لا يكيدَ لي ويهربَ بي ، فقد ذقتُ منهُ ذرعاً وذعراً بما فيهِ الكفاية ، فقلت لهُ حسناً ، وصعدتُّ إلى والدي وأخبرته بأنّ السائقَ يريدُ أجرةً قدرها كذا وكذا ، فنزلَ إليهِ وأعطاهُ ما يستحقهُ ، أما أمي ، فقد كانَ لي معها عتابٌ ساخن ، أخبرتها بكلِّ ما جرى مع سائقِ سيارةِ الأجرة ، وحلفتُ عليها بأنها ستكونُ آخرَ مرةٍ في حياتي أركبُ فيها سيارة أجرةٍ حتى ولو على حسابِ حياتي ، أموتُ بشرفٍ خيرٌ من أن أعيشَ بعار ، حقاً غمرتني حرقةٌ شديدة لمدى التساهلِ الذي دفعوني إليه دونما مبالاة ، كانَ عليهم أن يكونوا أشدّ حرصاً عليّ من نفسي ، ولكن ! سامحهم الله وغفرَ لهم ، وسيبقى ما حدثَ يوماً في حياتي لا يُنسى ..
=====من إيميلي ======