يتبع ...
بد أن يعلم المسلم أن أعدى أعدائه إليه هو نفسه التي بين جنبيه ، وأنها بطبعها ميالة إلى الشر ، فَرَّارَة من الخير ،
أمَّارة بالسوء : قال تعالى : ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) سورة يوسف. تحب الدعة ، والخلود إلى ا
لراحة ، وترغب في البطالة ، وتنجرف مع الهوى ، تستهويها الشهوات العاجلة وإن كان فيها حتفها وشقاءها .
فإذا عرف المسلم هذا عبأ نفسه لمجاهدة نفسه ، فأعلن عليها الحرب ، وشهر ضدها السلاح ، وصمم على مكافحة
رعوناتها ، ومناجزة شهواتها ، فإذا أحبت الراحة أتعبها ، وإذا رغبت في الشهوة حرمها ، وإذا قصرت في طاعة أو
خير عاقبها ولامها ، ثم ألزمها بفعل ما قصرت فيه ، وبقضاء ما فوتته أو تركته .
يأخذها بهذا التأديب حتى تطمئن ، وتطهر ، وتطيب ، وتلك غاية المجاهدة للنفس . قال تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) سورة العنكبوت.
والمسلم إذ يجاهد نفسه في ذات الله لتطيب ، وتطهر ، وتزكو ، وتطمئن ، وتصبح أهلاً لكرامة الله تعالى ورضاه يعلم أن
هذا هو درب الصالحين ، وسبيل المؤمنين الصادقين ، فيسلكه مقتدياً بهم ، ويسير معه مقتفياً آثارهم .
فرسول الله صلى الله عليه وسلم قام الليل حتى تفطرت قدماه الشريفتان .
وسئل عليه السلام في ذلك فقال : ( أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً ) رواه البخاري (8 / 449) في قيام الليل ، ومسلم
رقم ( 2820 ) في صفات المنافقين ، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادات .
أي مجاهدة أكبر من هذه المجاهدة وايم الله ؟!! .
وعلي رضي الله عنه يتحدث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول :
والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أرى شيئاً يشبههم ، كانوا يصبحون شعثاً غيراً صفراً قد باتوا
سجداً وقياماً ، يتلون كتاب الله ، يراوحون بين أقدامهم وجباههم ، وكانوا إذا ذكر الله مادوا كما يميد الشجر في يوم
الريح ، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم .
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : لولا ثلاث ما أحببت العيش يوماً واحداً : الظمأ لله بالهواجر ، والسجود له في جوف الليل
، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما يُنتقى أطايب الثمر .
وعاتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه على تفويت صلاة عصر في جماعة ، وتصدق بأرض من أجل ذلك تقدر قيمتها بمائتي ألف درهم .
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا فاتته صلاة في جماعة أحيا تلك الليلة بكاملها ، وأخَرَّ يوماً صلاة المغرب
حتى طلع كوكبان فأعتق رقبتين .
وكان عليٌّ رضي الله عنه يقول : رحم الله أقواماً يحسبهم الناس مرضى ، وما هم بمرضى وذلك من آثار مجاهد النفس .
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( خير الناس من طال عمره ، وحسن عمله ) رواه الترمذي ، وحسنه .
وكان أويس القرني رحمه الله تعالى يقول : هذه ليلة الركوع فيحيى الليل كله في ركعةٍ ، وإذا كانت الليلة الآتية قال :
هذه ليلة السجود فيحيى الليل كله في سجدة . أورد هذا الآثار الإمام الغزالي في الإحياء .
وقال ثابت البناني أدركت رجالاً كان أحدهم يصلي فيعجز أن يأتي فراشه إلا حبواً ، وكان أحدهم يقوم حتى تتورم
قدماه من طول القيام ، ويبلغ من الاجتهاد مبلغاً ما لو قيل له : القيامة غداً ما وجد مزيداً .
وكان إذا جاء الشتاء يقوم في السطح ليضربه الهواء البارد فلا ينام ، وإذا جاء الصيف قام تحت السقف ليمنعه الحر من
النوم ، وكان بعضهم يموت وهو ساجد .
وقالت امرأة مسروق رحمه الله تعالى : كان مسروق لا يوجد إلا ساقاه منتفختان من طول القيام ، ووالله إن كنت لأجلس
خلفه وهو قائم يصلي فأبكي رحمةً له .
وكان منهم من إذا بلغ الأربعين من عمره طوى فراشه فلا ينام عليه قط .
ويروى أن امرأة صالحة من صالحي السلف – يقال لها ( عجرة ) – مكفوفة البصر كانت إذا جاء السحر نادت بصوت لها
محزون : إليك قطع العابدون دجى الليالي يستبقون إلى رحمتك ، وفضل مغفرتك ، فبك يا إلهي أسألك لا بغيرك أن
تجعلني في أول زمرة السابقين ، وأن ترفعني لديك في عليين ، في درجة المقربين ، وأن تلحقني بعبادك الصالحين ،
فأنت أرحم الراحمين ، وأعظم العظماء ، وأكرم الكرماء ، يا كريم ، ثم تخر ساجدة ولا تزال تدعو وتبكي إلى الفجر .
من اطلا عاتي..
من كتاب ( جامع الآداب الإسلامية )