تصدع الجدار وأنا جالس في غرفتي أقرأ كتاب الله تعالى في ليلة من الليالي.
نظرت إلى الجدار وإذا به قد تشقق من أعلاه قمت فوضعت يدي على الجدار وبدأت أتساءل : إن منزلي جديد ! فماذا حدث ، هل هزة أرضية قد حدثت ؟؟!
فنطق الجدار قائلا : كم من الليالي وأنا أنتظر هذه الجلسة ؟
كم من الأيام وأنا أترقب هذه الخلوة ؟
أين ذهبت الأيام الماضية حين كنت تجلس مختلياً تقرأ كتاب الله وتراجع تفسيره ؟
لقد انقطعت عني كثيراً . فلا أدري ما السبب ؟
عبدالله : وهو ينظر على الجدار : إنني مقصر في حق ربي
الجدار : ألا تعلم أن كل جماد على الأرض سيشهد لك يوم القيامة فقد قال الله تعالى
(( وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها )) .
فاعمل خيراً حتى أشهد لك يوم القيامة .
عبدالله : وهل كان الناس يختلون حتى أختلي ؟
الجدار : نعم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يختلي في غار حراء حتى نزل عليه الوحي .
وكان يختلي بالليل يقيم لله تعالى .
وكان يعتكف العشر الأواخر من رمضان خلوة لله تعالى .
عبدالله : ما فائدة الخلوة ؟
الجدار : أقول لك ما قاله (( سيد قطب )) رحمه الله إنه (( لا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى ، لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت ، وانقطاع من شواغل الأرض , ضجة الحياة ، وهموم الناس , لا بد من فترة التأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة )) وبذلك تكون الروح كبيرة وتستلهم القوة من مصدر آخر حتى تغير له الواقع .
عبدالله : أظنك تعنين أن الداعية يزداد حركة وطاقة كلما اختلى مع الله تعالى .
الجدار : نعم هذا ما أعنيه لأنه يتزود بنور الله فيخرج في صباح اليوم التالي بنفسية جديدة وبخلق جديد .
عبدالله : وما هي فوائد الخلوة كذلك ؟
الجدار :1- السلامة من آفات اللسان .
2- حفظ القلب من الرياء .
3- وجدان حلاوة الطاعة .
4- حفظ البصر .
5- حصول الزهد والقناعة .
6- راحة القلب والبدن .
7- التمكن من عبادة التفكر والاعتبار وهو المقصود من الخلوة .
عبدالله : الله .. إنها لمعان أنا بحاجة إليها .
الجدار : نعم ، ولهذا أنا فرحت عندما جلست اليوم لقرأ كتاب الله ، حتى إنني تصدعت من شدة فرحي .
عبدالله : وهل يشترط للخلوة أن تكون ليلاً ؟
الجدار : هذا هو الأفضل ، ولكنك تستطيع أن تختلي صباحاً عندما تصلي الضحى مثلاً .
عبدالله : ولماذا الخلوة بالليل أفضل ؟
الجدار : لأن الوقت هادئ ، والناس في سكون ، فيكون فرحك أكثر كما قال بشر الحافي رحمه الله : (( غنيمة المؤمن غفلة الناس عنه وإخفاء مكانه عنهم )) .
ولهذا حاول أن تختلي ولو ساعة واحدة في الشهر فهذا (( يعلى بن أمية )) كانت له صحبة
(( وكان يقعد في المسجد ساعة ينوي فيها الاعتكاف )) .
وهذا أحمد بن حنبل – رحمه الله – حيث يروي لنا ابنه عبدالله يقول :
(( كان أبي أصبر الناس على الوحدة )) .
ويقول : لم ير أحد أبي إلا في مسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض ، وكان يكره المشي في الأسواق )) .
فهذه هي همة سلفنا – رحمهم الله ، فتشبه بالكرام فإن التشبه بهم فلاح .
عبدالله : ولكن ما سبب عزوف بعض الدعاة ، وأنا منهم – عن هذه العبادة مع ما فيها من فوائد كثيرة ؟
الجدار : السبب هو خلو ذاته من الفضيلة كما قرر ذلك طبيب النفوس الإمام (( أبو حامد الغزالي )) رحمه الله – حين قال :
(( إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلو ذاته عن الفضيلة ، فيكثر حينئذ ملاقاة الناس ، ويطرد الوحشة عن نفسه بالسكون معهم )) .
عبدالله : صدقت يا جدار
ولكن أخبرني ما هو برنامج الخلوة حتى ألتزم به ؟!
الجدار : هناك برامج كثيرة تستطيع فعلها بخلوتك مع الله تعالى منها : قراءة القرآن أو تفسيره أو قراءة كتاب الحديث وشرحه ، أو قراءة كتاب إيماني أو أخلاقي ، أو أن تذكر الله تعالى ، أو تسمع شريطاً ، أو تفكر وتعتبر وغيرها .
ولهذا قال (( ابن تيمية )) رحمه الله :
(( ولا بد لعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه ، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره ، فهذه يحتاج فيها إلى انفراد بنفسه ، إما في بيته ، وإما في غير بيته )) .
عبدالله : جزاك الله خيراً على هذه الفوائد ، ويا ليت كل جدران البيت تتشقق حتى تنفعني بما يصلح حالي كما سمعت منك .
الجدار : إن لي كلمة أخيرة أوصيك بها .
عبدالله : وما هي ؟!
الجدار : اعلم يا عبدالله أنه كما أن الجسد يمتحن فكذلك القلب يمتحن فالجسد يمتحن بالمرض والمصائب ، والقلب يمتحن بالفتن كما قال تعالى :
(( أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى )) .
فكن من الحكماء في تعاملك مع نفسك ، وفقني الله وإياك إلى حسن الخلوة واستثمار منافعها .
ثم قال الجدار وهو يلتئم مودعاً :
وكيف تريد أن تدعي حكيماً
وأنت لكل ما تهوى ركوب
منقول من حوارات الأستاذ جاسم المطوع