تضحيات ومفاخر خالدات، لَم تجتمع إلاَّ لآل أبي بكر - رضي الله عنهم - ويَنْبغي أن تَفْدي أُمَّة الإسلام النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بكلِّ ما تَمْلك في سبيل توطيد دعائم هذا الدين، ونُصْرة سيِّد المرسَلين - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وصل المشركون إلى الغار، واشتدَّ البحثُ عن رسول الله وصاحبِه، وتفرَّقَت العُيون في الدُّروب، وفي الجبال، وفي الكهوف، واقتُفِيَت الآثار حتَّى أحاطوا برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصاحبِه في الغار، وأصبَحا منهم رأْي العين، وأزاغ الله منهم الأبصار، حزن أبو بكر - رضي الله عنه - حزنًا شديدًا على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا على نفسه فما كان يعيش لِنَفسِه، فقال: يا رسول الله، لو أنَّ أحدهم نظَر إلى قدمَيْه لرآنا، فقال - وهو في جوْف الجبل أشدَّ ثباتًا من ذلك الجبل، في ثقةٍ بالله جلَّ جلالُه -: ((يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنيْن اللهُ ثالثهما؟! لا تحزَنْ إنَّ الله معنا)).
واللهِ الَّذي لا إله إلا هو، لوْ سارتْ مع قُرَيْشٍ كلُّ الأحْياء، وتشقَّقت القبور فخرجت الأموات يَسْحبون أكفانَهم خلْف قريش، يقلبون حجارة الأرض، ويُزحزِحون جبالَها، ويُفتِّشون فِجاجَها - ما قدروا على اثنيْن اللهُ ثالثُهما، لقد كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حالةٍ من الأَمْن والطُّمَأنينة لم يَصِل إليها بشَرٌ في الأرض، وهو يرى نفْسَه بين عَدُوِّه لا يحول بينهما إلاَّ التفاتة واحدة، لماذا؟ لأنَّه واثق بنصر الله، ومن كان الله معه فمَن يَخاف؟! ﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
قال عمر: "واللهِ لَلَيلةٌ من أبي بكر خيْرٌ من آل عمر"؛ يقصد ليلة الغار.
والْمُتأمِّل لِهَذه الحادثة يرى أنَّ الذين اختارهم الله لهذا السَّبْق جميعهم من الشباب، إلاَّ كهلاً واحدًا هو أبو بكر، فينادي بلسان الحال: إنَّ سواعد الشباب تتكاتَف مع عقول الشُّيوخ، فيصير بعد ذلك في أُمَّة الإسلام جيلٌ كاملٌ متكامل يَرْضى بالبَذْل، ويُضحِّي في سبيل دعوته، لا تعوقه أزمات، ولا تصدُّه عقبات.
ولَمَّا يَئِس المشركون من الظَّفَر بِهما، جعلوا لمن جاء بِهم دية كلِّ واحد منهما، فجدَّ الناسُ في الطَّلَب، فلمَّا مَرُّوا بِحيِّ مُدْلِج بَصر بِهم سُراقة بن مالك، فركب جوادَه، وسار في طلبهم، فلمَّا قرب منهم سَمِع قراءة النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم دعا عليه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فساخت يدَا فرَسِه في الأرض، ثم قال سراقة: ادْعُ الله لي، ولكما عليَّ أن أَرُدَّ الناس عنكما، فدعا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأُطْلِق، ورجع يقول للنَّاس: قد كُفيتُكم ما ها هنا.
ومَرَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مسيره ذلك بخيمة أمِّ مَعْبد، فقالا عندها - نامَا نوم القيلولة - ورأَتْ من آيات نُبوَّتِه في الشَّاة وحَلْبِها لبنًا كثيرًا في سنَة مُجدبة ما بَهَر العقول - صلوات الله وسلامه عليه.
ويَصِل رسولُ الله إلى المدينة، وقد بلَغ الأنصارَ مَخرجُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من مكَّة، وقصده المدينة، فتجسد الأنصار أروع أنواع المَحبَّة في أبْهى صُوَرها في استقباله عند هجرته إليهم - صلوات الله وسلامه عليه.
قال ابن القيِّم - رَحِمه الله - واصفًا هذه المشاعر النَّبيلة: وبلغ الأنصار مَخرج رسول اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من مكَّة، وقصْده المدينة، وكانوا يَخْرجون كُلَّ يوم إلى الْحَرَّة ينتظرونه أوَّل النهار، فإذا اشتدَّ حرُّ الشمس، رجعوا على عادَتِهم إلى منازلِهم، فلمَّا كان يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول على رأس ثلاثَ عشرة سنةً من النُّبوَّة، خرجوا على عادَتِهم، فلَمَّا حَمِي حَرُّ الشمس رجعوا، وصعد رجلٌ من اليهود على أُطم من آطام المدينة لبعض شأنه فرأى رسولَ اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابَه، مُبيَّضين، يزول بِهم السَّراب، فصرَخ بأعلى صوته: يا بَنِي قيلة، هذا صاحِبُكم قد جاء، هذا جدُّكم الذي تنتظرونه، فبادَرَ الأنصار إلى السِّلاح؛ لِيَتلقَّوا رسول اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وسُمِعَت الرجَّة والتكبير في بَنِي عمرو بن عوف، وكبَّر المسلمون؛ فَرحًا بقدومه، وخرجوا للِقَائه، فتلقَّوه، وحيَّوه بتحية النُّبوة، فأحدقوا به مُطيفين حولَه، والسَّكينة تَغْشاه، والوحي يَنْزل عليه، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ [التحريم: 4]؛ "زاد المعاد" (3/ 52).
إنَّها لحظات يتمنَّى كلُّ مسلم أن يعيشها، وأن يسكُبَ شيئًا من الدُّموع فرحًا بِها، الْمَوكب يتحرَّك بِبُطء، الطريق قد ازدحم بِسَيل الدُّموع وابتسامات الأطفال ولفتات الجموع، وسار على القَصْواء يُرخي زِمامَها، كُلَّما مرَّ بدارٍ من دور الأنصار أمسكوا بزِمام النَّاقة؛ لِيَنْزل عليهم، وهو يقول: دَعوها؛ فإنَّها مأمورة، وعلى الطُّرق، وفِي البيوت لا تكاد تَسْمع إلاَّ "الله أكبر، جاء رسولُ الله"، الموكب يتهادى بين القلوبِ، والبيوت، والأطفال يركضون، ويقفزون، ويهتفون، وبِبَراءة العيون في خَللِ الزَّحام عن صاحب النَّاقة يبحثون، وبِلُغتهم يُعبِّرون، فيهم أنَسٌ - رضي الله عنه - يَصِفُ ذلك بِحُروف تنبض بالمشاعر، فيقول: إنِّي لأَسْعى في الغلمان، وهم يقولون: جاء مُحمَّدٌ رسول الله، فلا أرى شيئًا، وأسعى، ولا أرى شيئًا، حتَّى جاء فخرج أهلُ المدينة، حتَّى إنَّ العواتق فوق البيوت يَتراءَيْنه، فما رأَيْن منظرًا شبيهًا به يومئذ، والله لقد أضاء مِن المدينة كلُّ شيء، ولم يُرَ في تاريخها مِن حفاوة تُعادِلُها حفاوة.
أنسٌ - رضي الله عنه - لم يَزل الطِّفل الذي لا يَهْدأ، طافَ المدينة يَنظر ويُنقِّل، فيَذكر بعْدُ أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلم - مرَّ بحيٍّ مِن بني النجَّار، وجُوَيرياتٌ يُنْشِدن:
نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجِّارِ
يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ
فيقول - صلَّى الله عليه وسلم -: ((اللهُ يعلمُ أن قلبي يُحبُّكن))، يا له من نَبِيٍّ! ما أعظمه! ما أرقَّ مشاعِرَه! يُعْلِن حُبَّه للصغير والكبير، في البيوت وعلى الطرقات، بل ويُعلن حُبَّه حتَّى للجِبال، يَمرُّ بعْدُ مِن عند أُحُد، فيقول: ((هذا أحُد، جبلٌ يحبُّنا ونُحبُّه)).
وما زال الموكب يسير، وأمام بيت أبي أيُّوب برَكَت الناقة، فنَزل - صلَّى الله عليه وسلم - عن ناقته، وازدحَم عليه أنصارُه، كلٌّ يَعْرِض عليه النُّزول، ويتسلَّلُ أبو أيوب - رضي الله عنه - فيأخذ رَحْل النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلم - إلى بيتِه، وهم في خِضَمِّ ذلك قال - صلَّى الله عليه وسلم -: ((أين رَحْلي؟))، قال أبو أيُّوب: هو عندي، قال: ((المرء مع رَحْلِه))، هيِّئْ لنا مقيلاً، وقد هيَّأه، وَحلَّ في دارِ أبي أيُّوب وقَلْبِ أبي أيوب، والمدينةُ كلُّها تَغْبطه، وتَعْرف الشَّرف الذي حلَّ بين جدران مَنْزله، إي والله.. لكن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - نزَل في سُفْل الدَّار عن رَغْبة مِنه، أمَّا أبو أيُّوب فَبِرغم شدَّة فرَحِه برسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - فقد كان في حرجٍ عظيم، لو رأيتَه وهو يسير في مَنْزِله لأشفَقْتَ عليه، لا يتحرَّك إلاَّ في مساحة ضيِّقة من عُلْيَة بيته، لا يتعدَّاها، في حسٍّ مُرْهَف، وإيمانٍ عميق، يُخاطب نفْسَه، ويقول: وَيْحك أبا أيُّوب، أتَعْلو رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلم - وأصبحَ، فأتَى النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلم - فقال: لا تكون تَحْتَنا بِأَبِي أنت وأُمِّي ونفسي يا رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا أيُّوب، السُّفلُ بنا؛ يغشاني أصحابي))، فقال أبو أيُّوب: والله لا أَعْلو سقيفةً أنت تَحْتَها يا رسول الله، فتحوَّل رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم - وقرَّت عينُ أَبِي أيوب - رضي الله عنه وأرضاه.
يقول الشاعر:
خُلُقٌ كَمَا خَطَرَ النَّسِي
مُ فَهَزَّ أَعْطَافَ النَّبَاتْ
وَشَمَائِلٌ عُلْوِيَّةٌ
أَصْفَى مِنَ الْمَاءِ الفُرَاتْ
لقد أحَبُّوه حُبًّا ملَكَ عليهم مشاعِرَهم، وخالط دماءَهم، وحلَّ في سُويدائهم - رضوان الله عليهم - فأين نَحْن من هؤلاء الأصحاب؟! هل امتلأَتْ القلوبُ حُبًّا لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم نُقدِّم قولاً بين قوله، ولا فعلاً على فِعْله؟ أم مَحبَّتُه والاعتراف بالاقتداء بِهَديه، شقْشَقَةُ لسانٍ فقط؟ مَن أحبَّ رسولَ الله بذَلَ الغالِيَ والنَّفيس كالصحابة الكِرَام، وسَخَّر جهده، وقلمَه، وبَنِيه، ومالَه؛ للدِّفاع عن رسول الْهُدى - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما فعَلَ أبو بكر، ولكن أين نحن مِن أبي بكر؟!
إننا أُمَّة رسالة ولا شكَّ، وحين نتخلَّى عنها تتنَزَّل بنا المِحَن والمصائب والنَّكبات، ورسالة أُمَّتِنا في الحياة هي الدَّعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ - على الْمَنهج الصحيح الصادق، والله - عزَّ وجلَّ - قد جعل وظيفة الأنبياء هي الدَّعوة إلى الله، ونَحن أُمَناء الله على رسالته، ونحن مستخْلَفون لتبليغ منهج الله، ونحن مكلَّفون بقيادة البشرية، وفي ظلِّ عدالتنا يُعْبَد الله، وفي ظلِّ حضارتنا يُكرَّم الإنسان في أرض الله، وكلُّ وضْعٍ يَجْعل قيادة البشرية لِغَير الأُمَّة المُسْلِمة فهو وضع نشازٌ طارئ، تَضِجُّ منه الأرض والسَّماء، ويَأْثَم المُسْلِمون حتى يُعيدوا القيادة لَهم: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
ألسْتَ من أتباع محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم؟!
ألستَ ترضى بالسَّيْر على خُطَى مُحمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم؟! إن كنتَ كذلك فلا بُدَّ لك أن يكون لك من دعوتِه نصيبٌ ﴿ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108].
اللهم انْصُر دينك، وأَعْلِ كلمتَك، وارْفَع رايتك على العالَمين، واجعلنا مِمَّن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنَه.
اللَّهم وكما آمنَّا بنبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولَم نرَه، فلا تُفَرِّق بيننا وبينه حتَّى تُدْخِلنا مدْخَله، واحشرنا في زُمْرته، واسْقِنا من حوضه شربةً لا نظمأ بعدها أبدًا