الموضوع: براعم وأشواك
عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 1  ]
قديم 2010-12-07, 2:16 PM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,493

غير متواجد
 
افتراضي براعم وأشواك




براعم وأشواك
أسامة الدرويش


كان صباحًا خريفيًّا ملبَّدًا بالغيوم الصفراء الشاحبة، والأشجار الناحِبَة، حينما انتبذت فاطمة مكانًا في إحدى زوايا البيت المتهاوي، متلوية من آلام الْمَخاض التي استمرَّت ثلُثَي الليل.

وبعد أن أعياها التعب في سكون ذلك البيت الذي لم يعرف الضَّجيج، ومع شروق شَمْس ذلك الصباح الحزين الشاحبِ شحوبَ وجْهِها أطلَّت صارخةً مُعْلِنة بداية موتِها في هذه الحياة الزائلة.

أَسْقَط قوامَها الإرهاقُ حتَّى لَم تستطع إرضاعَ ابنتها "حنان".

كانتا ملقاتَيْن إلى جانب بعضهما البعض، كأنَّهما خرجتا للتوِّ من حلبة مصارعة، كانتْ حالُها كمثل ليلة عاصفة أنْهَكَها صخب البَرْق ووميض اللمع إلى أن انْجَلَت، وبزغت شَمْس باردة، تلوَّت على مضض، تشجَّعَت، وأرضعت ابنتها، اقتاتت على ما كان قد يبس في الأواني بانتظار التنظيف، مضَتِ الساعات جزافًا ولا أحد يؤنس وحدتَهما.

كانتا وحيدتين وشبه معزولتين عن العالَم، أسرع الليل بلفِّ ردائه الأسود فوق سواد ذلك المَنْزل وشُحوبه، فلم تكد الأمُّ تنسى موت زوجِها حتَّى أعياها التفكير في كيفيَّة تربية ابنتها وإطعامها.

خبا ضوء السِّراج، وعلا بُكاء حنان، واشتدَّ سواد المكان، رفعَتِ الأمُّ وليدتَها بين يديها إلى الله متضرِّعة فازعة، ارتجفَتْ شفتاها بالدُّعاء: "اللهم إنَّنا نَحْن الفقراءُ إليك، نُولَد كالذُّباب ونعيش كالذباب، ونموت كالذباب، اللهم فارْحَمنا حين نولد، وحين نعيش، وحين تَبْعثنا أحياء".

انقضى ظلام تلك اللَّيلة وأقبل النَّهار الدَّامس، أكملت الأشجار عريها، منتظرَةً سَماء كانون لتستحمَّ بأمطاره، خشاش الأرض بدأ يَنْفَد ولا قوت غيره للأُمِّ وابنتها، رحْمَتَك يا الله، هذه المدينة أمامها تغصُّ بِمُمتلئي البطون، وهي لا تجد ما يسدُّ رمَقَها ويسكن جوفها.

أسعَفَها تفكيرُها وهَداها جوعُها إلى طريقة تكمل مشوارها إلى الحياة الأبدية، نظرت إلى تلك الزهور وبيدها مقص، وهوت به على أعناقها، حَملتها وابنتها الَّتِي كانت تشبه تلك الزُّهور منكِّسة رأسها تَمامًا كالأزهار، إلاَّ أنها بلا أشواك، نثرت الأزهار للمارَّة ولحقت بالعُشَّاق لتبيع الأزهار وترجع بالطعام.

مرت الأيام وتوالت السُّنون، كبرت حنان واستشرى السُّكري في جسد فاطمة النَّحيل، أطلَّ الشتاء السادس بعد الولادة، وكان على الأمِّ تعليمُ ابنتها كسائر أطفال العالَم، وكان يومًا شديد البَرْد على تلك الطفلة الشاحبة.

دخلت ذات يوم على أمِّها رأت بين يديها أوراقًا وكُتبًا، سألَتْها: ما هذا يا أمي؟

قالت الأمُّ: لا شيء، أكتب رسالة إلى الله يا ابْنَتي.
• رسالة إلى الله؟! وهل الله يقبل رسائلنا ويجيب عليها؟
• نعم يا ابنتي؛ فهو يسمع ويرى، وهو معنا أينما كُنَّا.

ظلَّت فكرة الرسائل معلَّقة في ذهن حنان، كان شبح الموت يَمْثُل أمام الأمِّ، ويزداد المرض، وترى حنان أمَّها فتتألَّم أيضًا.

ذات يوم رجعت الأم فوجدت ابنتها تُقلِّب أوراقًا في يدها، سألتها أمُّها: ما هذه؟
• لا شيء، إنها أوراقي وخصوصياتي.

ارتسمت على شفتَيِ الأم ابتسامةٌ صفراء، سرعان ما أزاحها ألَمُ مرضها.

توالت السنون، وأصبحت حنان في الصفِّ الرابع، ورغم تفرُّغها لبيع الزهور هذا العام بسبب عجز الأم عنه؛ إلا أنَّها كانت متفوقة.

استمرَّت حالة الأم ملقاةً على الفراش، وحنان من المدرسة إلى السوق، تبيع الأزهار، وتُحْضر الدواء والطعام، وتكتب وظائفها، ورسالةً إلى الله، وتنام، ويومًا وأثناء وجود حنان في المدرسة، أخذت الأمُّ تقلِّب رسائل الطِّفلة الخاصَّة، يا إلهي! إنَّها كثيرة، حسنًا سأقرأ بعضها:
"يا رب، يموت كلب أبو سليم؛ لأنَّه يرعبني في طريقي إلى المدرسة".
"يا رب، تُزْهِر هذه الوردة أكثر؛ لكي أوفِّر الدواء لأمي".
"يا رب يتأخَّر الشتاء هذا العام وألاَّ يكون باردًا".

لم تعد تُحْسِن الأمُّ القراءة بسبب الدُّموع التي غطَّت عينيها.. لَمْلمت الرسائل وهي تتساءل عن مضمون الأُخْرَيات، وتُفَكِّر بالرسائل التي قرأَتْها وأنَّها جميعها قد تحقَّقَت.

رجعت حنان من المدرسة، ووجدت أُمَّها على الفِرَاش، ووجها الأصفر الشاحب شاخصٌ إلى السَّماء.

دوَّتْ صرخةٌ أطلقَتْها الطِّفلة، انفجرت عيناها بالدُّموع، كتبَتْ رسالة إلى الله، وألقَتْ بِجَسدها فوق جسد أمِّها، وطوَّقَتْها.. ولا تزال.


توقيع يمامة الوادي




هل جربت يوماً اصطياد فكرة رائعة !؟
لـتـصوغـهـا فـي داخـلـك
وتـشحـنهـا بنبض قـلـبـك
وتعـطرهـا بطيب بروحك
وتسقـيـهـا بمـاء عـرقـك
حتى تنضج وتصنع منك إنساناً مبدعاً ؟