قال القرطبي - رحمه الله - : الصحابة - رضوان الله عليهم -بعد موته - عليه الصلاة والسلام - لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فهو خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك ولا عمر - رضي الله عنه - وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في هذه الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركاً تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو إذاً إجماع منهم على ترك تلك الأشياء[36].
وقال في موضع آخر: بعدما ذكر إجماع الصحابة على ترك ذلك التبرك فيما بينهم مع فعلهم له مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعتقدوا فيه الاختصاص[37]، وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله، للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير، لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان نوراً كله، فمن التمس منه نوراً وجده على أي جهة التمسه، بخلاف غيره من الأمة، وإن حصل له من نور الاقتداء به والاهتداء بهديه ما شاء الله، لا يبلغ مبلغه على حال توازيه في مرتبته ولا تقاربه فصار هذا النوع مختصاً به كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع، وإحلال بضع الواهبة نفسها له، وعدم وجوب القسم على الزوجات وشبه ذلك.
فعلى هذا المأخذ لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة، كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة" [38].
وروى البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذَا مَرِضَ أحدٌ مِنْ أَهْلِه، نَفَثَ عَليهِ بالمُعَوِّذات، فَلَماَ مَرَضَ مَرَضَهُ الذي مَاَتَ فِيهِ، جَعَلتُ أَنْفُثُ عَليهِ وأمْسَحُهُ بيَد نَفْسِهِ، لأَنَهَا كَانَتْ أعظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدي [39].
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي جحيفة - رضي الله عنه - أنه قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْبَطْحَاءِ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ وَزَادَ فِيهِ عَوْنٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ كَانَ يَمُرُّ مِنْ وَرَائِهَا الْمَرْأَةُ، وَقَامَ النَّاسُ، فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ يَدَيْهِ فَيَمْسَحُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ، قَالَ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَوَضَعْتُهَا عَلَى وَجْهِي فَإِذَا هِيَ أَبْرَدُ مِنْ الثَّلْجِ، وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنْ الْمِسْكِ[40].
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُ بَيْتَ أُمِّ سُلَيْمٍ فَيَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا، وَلَيْسَتْ فِيهِ قَالَ: فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَنَامَ عَلَى فِرَاشِهَا، فَأُتِيَتْ فَقِيلَ لَهَا هَذَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - نَامَ فِي بَيْتِكِ، عَلَى فِرَاشِكِ، قَالَ: فَجَاءَتْ وَقَدْ عَرِقَ، وَاسْتَنْقَعَ عَرَقُهُ عَلَى قِطْعَةِ أَدِيمٍ، عَلَى الْفِرَاشِ، فَفَتَحَتْ عَتِيدَتَهَا فَجَعَلَتْ تُنَشِّفُ ذَلِكَ الْعَرَقَ فَتَعْصِرُهُ فِي قَوَارِيرِهَا، فَفَزِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: مَا تَصْنَعِينَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرْجُو بَرَكَتَهُ لِصِبْيَانِنَا،قَالَ: أَصَبْتِ[41].
وروى البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد قال: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِبُرْدَةٍ، فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ فَقَالَ الْقَوْمُ: هِيَ شَّمْلَةُ فَقَالَ سَهْلٌ: هِيَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْسُوكَ هَذِهِ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا، فَرَآهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ هَذِهِ فَاكْسُنِيهَا، فَقَالَ: نَعَمْ فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لامَهُ أَصْحَابُهُ، قَالُوا: مَا أَحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَهَا مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لا يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعَهُ، فَقَالَ: رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا[42].
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث سلمة بن صخر الزرقي في قصة الرجل الذي ظاهر من امرأته في رمضان وشكا إلى قومه حاله فأرشدوه إلى أن يذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.. وفي آخر الحديث قال لقومه: وَجَدْتُ عِنْدَكُمْ الضِّيقَ وَسُوءَ الرَّأْيِ، وَوَجَدْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - السَّعَةَ وَالْبَرَكَةَ[43].
وروى أبو داود في سننه من حديث الحارث بن عمرو السهمي قال: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِمِنًى أَوْ بِعَرَفَاتٍ وَقَدْ أَطَافَ بِهِ النَّاسُ قَالَ فَتَجِيءُ الأَعْرَابُ فَإِذَا رَأَوْا وَجْهَهُ قَالُوا هَذَا وَجْهٌ مُبَارَكٌ [44].
وكان الصحابة يتبركون بشعر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه أقرهم على ذلك، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - وزعه عليهم.
روى مسلم في صحيحه من حديث أنس - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -أَتَى مِنًى فَأَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى وَنَحَرَ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَلاَّقِ: خُذْ، وَأَشَارَ إِلَى جَانِبِهِ الأَيْمَنِ، ثُمَّ الأَيْسَرِ، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ [45].
وفي رواية: فَبَدَأَ بِالشِّقِّ الأَيْمَنِ فَوَزَّعَهُ الشَّعَرَةَ وَالشَّعَرَتَيْنِ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ قَالَ بِالأَيْسَرِ فَصَنَعَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: هَا هُنَا أَبُو طَلْحَةَ، فَدَفَعَهُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ[46].
قال النووي : ومن فوائد الحديث، التبرك بشعره - صلى الله عليه وسلم - وجواز اقتنائه للتبرك[47].
وكانوا يتبركون بماء وضوئه - صلى الله عليه وسلم -. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي جحيفة - رضي الله عنه - أنه قال: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْهَاجِرَةِ فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ،فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ[48].
قال ابن حجر - رحمه الله - كأنهم اقتسموا الماء الذي فضل عنه، ويحتمل أن يكونوا تناولوا ما سال من أعضاء وضوئه - صلى الله عليه وسلم -[49].
وفي صحيح البخاري أن عروة الثقفي قال عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه[50].