الشبة الثالثة : قولهم : إن ( قيادة المرأة للسيارة ) خير لها من الخَلوة بالسائق الأجنبي .
لا شك أن القوم لمَّا غُصُّوا بالأدلة الشرعية، والقواطع البرهانية؛ التي رشقهم بها أهل العلم في هذه البلاد – حفظهم الله – خرجوا يتسابقون كالذي يتخبطه الشيطان من المسِّ؛ يهيمون على وجوههم في الفيافي والصحاري القافرة؛ باحثين عن جرعةِ ماءٍ ليدفَعوا بها غُصَصَهم، ويَرْوا غلتهم، ويَشفوا عِلتِهم؛ حتى إذا وجدوا ما ظنَّوه ماءً تساقطوا عليه كالذباب، وما علموا أنه "مستنقع آجن" لا يسمن، ولا يغني من جوع، فلما تَجَرَّعُوه ولا يكادون يُسِيغُونه فاحت روائحُهم من تحت ألسنتهم ومن بين أسنانهم؛ وقالوا قولتهم : القيادةُ خيرٌ من الخَلوة !.
قال تعالى ( …كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا " الكهف 5 .
قلت: إن الرد على هذه الشبهة من وجهين عام وخاص :
• العام : العمل بالقاعدة المشهورة " الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف " .
وصورتها : أن الأمر إذا دار بين ضررين أحدهما أشد من الأخر؛ يجب ارتكاب الضرر الأخف دون ارتكاب الأشد، وهذه منبثقة من القاعدة الفقهية السابقة " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح "، ومتفرعة - أيضاً - عن القاعدة الكلية " لا ضرر ولا ضرار " .
ودليل القاعدة، قوله تعالى : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) الأنعام 108، فلا شك أن مسبة، ومعاداة، وتسفيه معبودات المشركين مقصود شرعي إذا أمن المسلم من سبّهم لله ـ تعالى ـ ؛ أما إذا قابل المشركون سابَّ آلهتهم بسبِّ الله تعالى؛ وجب حينئذ على المسلم المسك عن سبِّ آلهتهم دفعاً للشر الأكبر _ وهو سبهم لله تعالى _.
وكذا قوله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ) البقرة 217
فإذا كان من نقمة الكفار على المسلمين من قتال في الشهر الحرام مفسدةٌ، فإنَّ ما هم عليه من الصدِّ عن سبيل الله، والكفر به، وبسبيل هداه، وبالمسجد الحرام، وإخراج أهله منه أكبر عند الله، وأشدُّ ذنباً من القتال في الشهر الحرام .
وكذلك جميع ما وقع في صلح الحديبية من هذا القبيل؛ من التزام تلك الشروط الصعبة التي ظاهرها ضررٌ وخفةٌ على المسلمين؛ ولكن تَبَيَّن في النهاية أنها كانت عينُ المصلحة، وذريعة إلى الفوز بالفتح المبين .
• الخاص : فقد رد على هذه الشبهة شيخنا محمد بن صالح العثيمين - حفظة الله - في جوابِ سؤالٍ عُرض عليه وهذا كلامه : فالذي أرى أن كلَّ واحد منهما فيه ضرر، وأحدهما أضر من الثاني من وجه ولكن ليس هناك ضرورة توجب ارتكاب واحد منهما … انتهى .
• قلت ومن هذه الردود أيضا :
أولاً : ينبغي أن يعلم : أن الخلوةَ ترتفع بوجود ما يلي :
1 ـ وجود رجل آخر فأكثر من أهل التقى والصلاح؛ سواء كان محرماً للمرأة أو لا .
2 ـ وجود امرأة أخرى معها .
لأن وجود السائق مع المرأة عند وجود رجل آخر، أو وجود امرأة أخرى؛ لا يُعَدُّ خلوةً، لذا نجد – ولله الحمد – أن غالب نساء هذه البلاد لا يركبن مع السائق بمفردهن إلا مع وجود رجل آخر، أو امرأة أخرى، وهذا هو الأصل بغض النظر عن الشَّاذات لأن الحكمَ للأعمِّ الأغلب .
وهذا يفيدنا أن للمرأة في الإسلام متسعاً وفسحةً عند ركوبها مع السائق الأجنبي؛ إذا وجد رجل، أو امرأة معها .
إذاً قولكم : ( قيادة المرأة للسيارة ) خيرٌ لها من خلوتها بالسائق الأجنبي، ليس على إطلاقه بل هو خلافُ الأصل المألوف، لأن الخلوةَ التي تقصدونها نادرةٌ وشاذةٌ لا تستحق أن تأخذ حُكمَ الأصل والعموم؛ بحيث تجعلونها في الحُرمةِ تقاوم حُرمة ( قيادة المرأة للسيارة ) .
ثانياً : لا شك أن خلوة المرأة مع الرجل الأجنبي حرام؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "… ولا يَخلُونَّ أحدُكم بامرأة، فإنَّ الشيطانَ ثالثُهُما... الحديث " رواه أحمد، والترمذي، والحاكم، وابن حبان .
ثالثاً : ومما ينبغي أن يُعلمَ - أيضا - أن عِلةَ تحريم الخلوة هو خشية الوقوع في الحرام؛ لا سيما مع قوة المقتضى، وضعف المانع، فتكون الخلوة إذاً وسيلةً للحرام لكنها ظنيَّة؛ إلا أن الشريعة الإسلامية حرمتها ومنعتها حسماً للحرام المظنون وقوعه .
أمَّا بالنظر إلى ( قيادة المرأة للسيارة ) فهي وسيلةٌ قطعيةٌ للحرام؛ حيث لا تخلو المرأة – غالباً – من الوقوع في المحرمات كلها، أو بعضها مثل كشف الوجه، وما تلاقيه من الإيذاء في الطرقات، والأسواق، ونزع الحياء منها، والحياء من الإيمان، وسبب لكثرة خروجها من البيت، والبيت خيرٌ لها، وفتح الباب على مصراعيه لها بحيث تخرج متى شاءت، وإلى من شاءت، وحيث شاءت، وتمردها على زوجها، وأهلها؛ فلأدنى سبب يثيرها في البيت تخرج منه وتذهب لسيارتها إلى حيث ترى …! وكذا مطالبتها بصورتها في رخصة القيادة للتحقق من هويتها .
وكما أنها سبب للفتنة في مواقف عديدة :
• في الوقوف عند إشارات الطريق .
• في الوقوف عند نقطة التفتيش .
• في الوقوف لملْ إطار السيارة بالهواء " البنشر " .
• في الوقوف عند محطات البنزين .
• في الوقوف عند رجال المرور عند التحقيق في مخالفة أو حادث .
• في الوقوف عند خلل يقع بالسيارة أثناء الطريق فتحتاج المرأة إلى إسعافها، فماذا تكون حالتها ربما تصادف رجلا سافلاً يسومها على عرضها في تخليصها من محنتها، لا سيما إذا عظمت حاجتها حتى بلغت حد الضرورة ()، وغير ذلك مما ذكرناه .
فأقول : إذا كانت " الخلوةُ " وسيلةً ظنيةً للحرام، و ( قيادةُ المرأة للسيارة ) وسيلةً قطعيةً للحرام وجب إذاً تقديم ما كان قطعياً على الظَّني عند تعارضهما؛ كما هو معلوم عند أهل العلم من الفقهاء، والأصوليين؛ مع العلم أن كلاهما حرام؛ لكن عند تزاحم المفاسد يقدم ما كان أقلها فساداً جرياً للقاعدة المشهورة " الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ".
وبعد هذا فإني أحذر المتهاونين من الطباخين، والذواقين الولوغ في مسألة ( قيادة المرأة للسيارة )، التي لن نجنيَ عند وجودها ـ لا قدر الله ـ إلاَّ الفتنَ، والسفورَ، والاختلاط؛ ولات حين مناص، كما هو الحال في كافة البلاد التي دفعت نسائها إلى قيادة السيارة .
وذلك أن الفتن إنما يُعرف ما سفيها من الشرِّ إذا أدبرت، فأمَّا إذا أقبلت فإنها تُزيَّن، ويُظنّ أنَّ فيها خيراً فإذا ذاق الناس ما فيها من الشَّرِّ، والمرارةِ، والبلاءِ صار ذلك مبيِّناً لهم مضرتها، وواعظاً لهم أن يعودوا لمثلها .
كما أنشد بعضهم :
الحربُ أوَّلُ مـا تكونُ فَتَيَّـةً تسعى بزينتِها لـكلِّ جَهولِ
حتى إذا اشتعلت وشَبَّ ضِرامُها ولَّتْ عجوزاً غيرَ ذاتِ حليلِ
شمطـاءَ يُنـكرُ لونُها وتغَّيرت مكروهةً لـلشَّمِّ والتَّقبيـلِ()
وأكرر قولي ونصحي : أن الذين دخلوا في قضية ( قيادة المرأة للسيارة ) من الطباخين، والذواقين لم يعرفوا ما فيها من الشرِّ، ولا عرفوا مرارةَ الفتنةِ حتى إذا وقعت ـ عياذاً بالله ـ صارت عبرةً لهم ولغيرهم، ومن استقرأ حال هذه الفتنة التي لم تزل تجري في بلاد المسلمين ـ خاصة ـ يتبيَّن له أنه ما دخل فيها أحدٌ فحمد عاقبة دخوله فيها؛ لما يحصل له من الضرر في دينه ودنياه، ولهذا كانت من باب المنهي عنه شرعاً، والإمساك عنها من المأمور الذي قال الله فيه " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " النور 63 .
ولولا خشية الإطالة لذكرت من منظومة الشُّبهِ التي يختلقها أصحابها العددَ الكثير؛ لكنَّها ـ ولله الحمد ـ شبهٌ واهيةٌ لا تستحق أكثر من قولنا لهم : ( رفقاً بالقوارير ) ! .
وكذا نذكرهم بقول الله تعالى : " واتقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا أن الله شديدُ العقاب ) الأنفال 25 ، وبهذا نكتفي بما أجراه القلم بصدد ( قيادة المرأة للسيارة).
فأستودعكم الله ـ تعالى ـ في السِّرِّ والعلن، وأسألُه ـ تعالى ـ أن يحفظ بلادَنا، وبلادَ المسلمين من كلِّ سوء، وأن يَعصمَ نساءَ المسلمين من الفتنِ ما ظهر منها، وما بَطن آمين .
والصلاة والسلام على محمد المختار، وعلى آله الأطهار، وصحبه الأبرار .