|
موضوع منقول في مكارم الاخلاق
الكاتب: الشيخ د.عبد العزيز بن عبد الله الحميدي
التاريخ: 23/06/1427
 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :
فهذه توجيهات سلوكية في المجال الأخلاقي . فمن ذلك ما أخرجه الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " جاء شيخ يريد النبي صلى الله عليه وسلم , فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا" ([1]) .
فقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم شرف الانضمام والانتماء إلى المجتمع الإسلامي عن أهل الجفاء والقسوة الذين لا يرحمون الصغار ولا يحترمون الكبار , وهذا يعني أن من فعل ذلك قد ارتكب كبيرة لما قد ترتب على تلك المخالفة من براءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن فعل ذلك .
وهذا يبين لنا أهمية الاهتمام بالصغار بالرحمة بهم , وبالكبار باحترامهم , وقد جمع بين الصغار في السن والكبار اشتراكهما في عامل الضعف , وأن كلا من الفريقين بحاجة إلى الراشدين في المجتمع الذين لم يبلغوا سن الشيخوخة .
وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة الله جل وعلا عن الذين لا يرحمون الناس , كما أخرج الحافظ أبو عبد الله البخاري رحمه الله من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"من لا يَرحم لا يُرحم" ([2]) .
وفي رواية أبي عيسى الترمذي رحمه الله توضيح لهذه الرواية حيث جاء فيها " من لا يرحم الناس لا يرحمه الله" ([3]) , وهذا بيان لفضيلة خلق الرحمة وأهميته في الإسلام , حيث رتب صلى الله عليه وسلم رحمة الله جل وعلا بالعباد على رحمتهم بالناس .
والرحمة خلق جليل يترتب عليه المعروف والإحسان والعدل , واجتناب الظلم وكف الأذى, فصاحب القلب الرحيم مجبول على فعل الخير واجتناب الشر .
وفي بيان جزاء الرحمة أخرج الشيخان رحمهما الله من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات , فأعطت كل واحدة منهما تمرة , ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها , فاستطعمتها ابنتاها , فشقَّت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما, فأعجبني شأنها فذكرت الذي صنعتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن الله قد أوجب لها الجنة – أو قال- أعتقها من النار" ([4]) .
ففي هذا الحديث إشادة من النبي صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة التي رحمت ابنتيها فآثرتهما على نفسها , فهل كانت تلك المرأة تتصور أنها بتنازلها عن تمرة واحدة ستدخل الجنة ؟ فما أهون الثمن وما أبلغ الجزاء!!
وأخرج الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله وحسَّنه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : " صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال : يا معشر من آمن بلسانه ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيِّروهم ولا تتَّبعوا عوراتهم , فإنه من تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله " .
قال : ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك ([5]) .
فهذا الحديث يعالج أنواعا من السلوك السيء في معاملة المسلمين , وقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم للتحذير منها بمقدمة بليغة , حيث صعد المنبر ونادى بصوت رفيع , وحكم على من وقع في ذلك السلوك المنحرف بأنهم ممن لم يصل الإيمان إلى قلوبهم , والمراد بهذا الإيمان المنفي الإيمان المؤثر في السلوك , حيث لم يكن هناك إيمان حي مؤثر يردع أولئك عن ذلك السلوك المنحرف .
وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك السلوك المنحرف بأذية المسلمين , وذكر نوعين من هذه الأذية , هما تعيير المسلمين وتتبع عوراتهم , فأما تعيير المسلمين فإن من ذلك وصفهم بالأشياء التي تُعدُّ منقصة لهم كالتنابز بالألقاب , وذلك فيما إذا كان للإنسان لقب يَستاء منه فإنه لا يجوز للمسلم أن يناديه به , أو كان قد اشتهرت قبيلته أو أهل بلده بوصف يُعدُّ منقصة , فلا يجوز أن يعيَّر بذلك , وكذلك ما إذا كان به عاهة أو قد ابتُلي بفقر أو كان منصبه صغيرا , فلا يجوز لأخيه المسلم أن يعيره بذلك .
وأما تتبُّع عورات المسلمين فإنه يكون بالبحث والتنقيب عن عيوب المسلمين وما خفي من أمورهم مما يسوءهم علم الناس به .
وقد جاء في هذا الحديث الوعيد الشديد لمن فعل ذلك بأن الله تعالى يفضحه ويكشف سوءاته للعباد ولو كان في أخفى مكان عن الأنظار .
وأخرج الحافظ أبو داود السجستاني رحمه الله من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من رأى عورة فسترها كان كمن أحيى موءودة" ([6]) .
فالستر على المسلمين أمر مهم , فالإنسان ضعيف بطبعه ومعرَّض للنقائص والعيوب , فإذا وُفِّق المسلم بإخوة له يسترون عيوبه ويغضُّون الطرف عن نقائصه فإن وقوعه في تلك النقائص والعيوب لا يؤثر كثيرا على نفسيته , وقد شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم عمل هؤلاء بعمل من أحيى موءودة قد جهزها وليها للوأد تحت الأرض , فالذين يسترون على المسلمين قد قاموا بإحيائهم مرة أخرى , لأن الحياة ليست حياة الأجسام فقط وإنما هي حياة المشاعر والأحاسيس .
أما إذا ابتُلي من وقع في شيء من العيوب والنقائص بالكشافين الذين أُولعوا بتتبع النقائص وكشف العيوب فإنه تتحطم نفسيته وتنجرح مشاعره , ويموت نفسيا قبل أن يموت جسديا , فهؤلاء عملهم كعمل الوائدين الذين يدفنون بناتهم وهن حيات , وكان هذا عمل بعض العرب في الجاهلية .
------------------------------
([1] ) سنن الترمذي , رقم 1920 , كتاب البر , باب 15 (4/321 ) .
([2] ) صحيح البخاري , رقم 6013 , كتاب الأدب , (10/438) .
([3] ) سنن الترمذي , رقم 1922 , كتاب البر , باب 16 ( 3234) .
([4] ) صحيح مسلم , رقم 2630 , كتاب البر , باب 46 (2027) .
صحيح البخاري , رقم 5995 , كتاب الأدب , باب 18( 10/426) .
([5] ) سنن الترمذي , رقم 2032 , كتاب البر , باب 85 (4/378 ) .
([6] ) سنن أبي داود , رقم 4891 , كتاب الأدب , باب 45 (5/200).
|