الوقفة الثالثة:
أن سنة الله في الأيام والدول والأحوال أنها لا تقر على أمر دائم بل هي سريعة التقلب والزوال: فالشدة تؤذن بالفرج والله سبحانه قد قال :{...وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...[140]}[سورة آل عمران] . فالحال تتقلب وتتغير وهذه من سنن الله في خلقه، فالناس لا تستمر حالهم على حال واحدة بل هم في مناوبة وتعاقب بين المصائب والمواهب، بين المسار والمضار:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[140]} [سورة آل عمران] .
إن الله سبحانه جعل البلاء موصلاً إلى رحمته{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[214]}[سورة البقرة] .
اصبر قليلاً فبعد العسر تيسير وكل وقت له أمر وتدبير
وللمهـيمن في حالتنا قدر وفوق تدبيرنا لله تدبير
نرى الأمور ونكرهها، نراها على غير ما نهوى، ويخرج الله من رحم الظلام فجراً تشرق به الوجوه، وتسر به النفوس، ويحقق الله به الوعد الذي وعده هذه الأمة، فكلما اشتدت الكربة رقبنا الفجر، جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له: يا أمير المؤمنين أجدبت الأرض، وقحط المطر، وقنط الناس. قال : إذاً مطرتم . فجعل عمر بن الخطاب اشتداد الحال علامة على قرب المطر، قال رحمه الله بعد قوله له: مطرتم، تلا قول الله:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ[48]}[سورة الشورى] . والله يبتلي العباد بما يبتليهم به ليميز الخبيث من الطيب، ثم بعد ذلك يأتي فرج الله :
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
إنه مهما كان من انهزام وانكسار، فلن يخلف الله وعده.
الوقفة الرابعة:
أن وعد الله لا يزيد المؤمنين عند اشتداد الكرب إلا ثباتاً، لما اشتد الأمر على صحابة رسول الله فجاءهم عدوهم من فوقهم، ومن أسفل منهم، وبلغت القلوب الحناجر، وظنوا بالله الظنون، قال المنافقون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، ما وعدنا إلا أمراً لا تحصيل له، كذباً لا سبيل إلى إدراكه، وأما المؤمنون الثابتون المصدقون لوعد الله فمهما اسودت الدنيا في وجوههم؛ لا يتزلزل الإيمان في قلوبهم، بل هم مصدقون لوعد الله ورسوله {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً[22]}[سورة الأحزاب] .
وعد الله لا يخلف {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ[47]}[سورة إبراهيم] . {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[21]}[سورة المجادلة] . {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ[51]}[سورة غافر] . {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[105]}[سورة الأنبياء] . وقال تعالى:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} فقال جلّ وعلا مبشراً أهل الإيمان بعد هذا التهديد:{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ [13] وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ[14]}[سورة إبراهيم].
إن اليأس يدب في بعض النفوس، فالناظر في أحوال الأمة الإسلامية يجد أن المآسي والنكبات قد اتسع نطاقها، وبدأت تتناثر هنا وهناك، فلا تكاد تخف وطأة الكفر على بلد من البلدان حتى تفجع الأمة بنكبة، أو نكبات جديدة يرقق بعضها بعضاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في نبأ الفتن: [...وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي...]رواه مسلم.
إن آلام الأمة لو تتبعناها لطال بنا الكلام، ولسنا في شأن تعداد الآلام، إنما في شأن التعامل مع هذه الآلام، كيف يتعامل المؤمن مع هذه الآلام؟ إن الواجب على المؤمن أن يتعامل مع هذه الآلام بإيمان جازم، ويقين راسخ، وعقد صالح، وعمل يرفع به درجته، ويثبت به قدمه، إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: [بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا] رواه مسلم .
فالواجب على المؤمن أن يستقبل هذه النوازل بصبر، وإيمان راسخ، وأن يرجع إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن في هديه ما ليس في غيره من الكتب والآثار وغير ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعله الله أسوة لأهل الإيمان:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً[21]}[سورة الأحزاب] .
إننا بحاجة في ظل هذه الأزمة التي كشرت عن أنيابها على الأمة الإسلامية في بقاع الأرض، فأمس أفغانستان، واليوم العراق، وغداً سوريا، وبعدها الله أعلم، هذه الهجمة التي يقودها الغرب الصليبي الصهيوني إنما تقابل بإيمان راسخ، وعمل جازم، ويقين ثابت، فإنه لا سبيل إلى تفادي هذه الكربات، واستقبال هذه النكبات إلا بما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة اللجأ إلى الله، والاعتماد عليه، وعدم النظر إلى هذه القوة المادية، فإن الشيطان يخوف أولياءه، يخوفنا بهذه القوة، ونحن معنا قوة لا تهزم، معنا الله الذي قد قال:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[128]}[سورة النحل] .
فلنكن من الذين اتقوا والذين هم محسنون، فإن الله لا يخلف الميعاد، كتب أحد الصحابة لقريش في وصف مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، قال :'إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءكم بجيش كالليل يمشي كالسيل، فأحذركم إياه فو الله لو جاءكم وحده لهزمكم' . فالمراد أن وعد الله لا يتخلف والصحابة أيقنوا بذلك، فجاءتهم البشائر، وحققوا النصر، وهذا الفتح المبين، والنشر الكبير لدين الإسلام إنما كان لصدق إيمانهم، وعظيم توكلهم واعتمادهم على ربهم .
إننا بحاجة إلى نظرة متفائلة، نظرة تنظر إلى المستقبل بإشراق، ترقب وعد الله، وتعمل على تحقيقه، إننا بحاجة إلى أن ننظر إلى المستقبل بنظرة متفائلة، فالبشائر كثيرة التي تدل على أن الأمة قد أقبلت على خطوة يرتفع بها دينها، ويعلو بها شأنها، إن الخصوم أعداء الإسلام لم يخرجوا من الاستعمار الذي غلب ديار الإسلام إلا وقد أيقنوا أنهم خلّفوا في بلاد الإسلام ما يأمنون به على مصالحهم، ويقوم به شأنهم، ويقوم به ما يريدون تحقيقه في بلاد الإسلام، فلما رأوا أن الأمة قد عادت إلى ربها على وجه العموم، فالخير انتشر في الأمة، والدعوة إلى الله سادت وانقلبت عليهم الموازين، وأصبحوا يرون في الذين خلّفوهم بعدهم لا يحققون مقاصدهم ولا مآربهم؛ عادوا بجيوشهم ليسيطروا على الأمة ويمنعوها من تحقيق العلو والنصر {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ[21] }[سورة يوسف] .
كل هذا السعي إنما هو لتمكين اليهود، وإفشال كل من يدعو إلى الله ورسوله، ولو كان يدعو بالكلمة الحسنة، ويدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، إنهم لا يريدون أن تعلو كلمة الله في مكان من الأرض كما جاء في دعاء عمر رضي الله عنه على هؤلاء لما كان يدعو عليهم يقول :'اللهم العن كفرة أهل الكتاب، الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك' .
هذا الوصف منطبق على الصهاينة الصليبيين الذين يحتلون بلاد العراق، ويحتلون غيرها من بلاد المسلمين، نسأل الله أن يكشف الكربة عن هذه الأمة، وأن يعز الإسلام وأهله، وأن يذل الكفر وملله، وأن يخرج هؤلاء الكافرين من بلاد الإسلام أذلة صاغرين؛ إنه ولي ذلك، والقادر عليه .
إننا بحاجة إلى أن نرجع إلى كتاب الله عز وجل: نقرأ فيه السنن، ونطالع فيه ما ذكره سبحانه من سبل النجاة في الكربات والمدلهمات، نتأمل فيه من الخير الذي يخرجنا من هذه الأزمات والله سبحانه على كل شيء قدير، وقد قال في خصوم الدين:{فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً[84]}[سورة مريم].
وقد جعل الله لكل شيء قدراً، والله لا تعجله الأماني، ولا تعجله دعوات الناس، فالله جعل لكل شيء قدراً إذا جاء الكتاب وبلغ أجله؛ فإن الله منجز وعده، لا إله إلا هو وحده، نصر عبده، وهزم الأحزاب وحده وأظهر دينه، نسأل الله بأسمائه وصفاته أن يقر أعين الجميع بنصر الإسلام، وأن يحقن دماء إخواننا في العراق، وفي سائر بلاد الإسلام، و صلى الله وسلم على نبينا محمد.
من محاضرة'الإسلام يعلو' للشيخ/ خالد بن عبد الله المصلح
نقلا عن / مفكرة الإسلام