وقفات مع وعد الله
الحمد لله، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد،،،
فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وانقطاع من النذر، وقد ملأ العالم الظلمات، وتشتتت فيه الأهواء، وتفرقت فيه الأديان، حتى إن الله مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا نفراً قليلاً من أتباع الرسل، قال تعالى:{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[19]}[سورة المائدة] . وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَالَ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ] رواه مسلم .
بعثه الله رحمة للعالمين، وقد وعده الله بالظهور والعلو والرفعة، وأنه ظاهر على كل من عانده وخاصمه، كما قال جل وعلا :{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[33]}[سورة التوبة] . ليظهره ويعليه على كل دين ولو كره المشركون .
إن دين الإسلام ظاهر لا يرتاب في ذلك إلا منافق يقول :{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً[12]}[سورة الأحزاب] . أما أهل الإيمان الذين صدَّقوا وعد الله وخبره فهم يوقنون أن الله قد أعلى أمر هذا الدين وأظهره منذ أن بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين ودعاهم، فما زال هذا الدين في علو وارتفاع، وغيره في سفول وانحسار، والله لا يخلف الميعاد {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ[20]}[سورة الزمر] . حتى في أيام الضعف وفي مراحل النكبات، وفي أيام الأزمات والانتكاسات كان هذا الدين عالياً شامخاً يخرج من تلك الأزمات ومن تلك النكبات قد اكتسب جمعاً كثيراً من الناس .
الحق يعلو ولا يعلى عليه فمن ناواه كانت جنود الله منتصرة
جنود الله التي لا حصر لها ولا يعلمها إلا الله ، يثبت بها أهل الإيمان، ويعلي بها شأن أهل الإسلام، ويرفع الله بها دينهم وعملهم بقدر ما يكون معهم من الصدق، وقد أخبر في كتابه مؤكداً في مواضع عديدة أنه لا يخلف الميعاد، قال جل وعلا :{...فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ...[80]}[سورة البقرة].
إلا أننا مع هذا الوعد ومع هذه البشارة نحتاج إلى أن نقف وقفات:
الوقفة الأولى:
أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا العلو وهذا الظهور لأهل الدين خاصة دون غيرهم: فالعلو الذي جاء للإسلام إنما هو لأهله، فبقدر ما يتحقق لهؤلاء من وصف الإسلام ويكون معهم من خصاله وأعماله؛ بقدر ما يكون لهم من العلو والارتفاع، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ[8]}[سورة المنافقون] .
وإنما ذكر المنافقين دون غيرهم لأنهم مندسون في أهل الإسلام، يعيشون معهم، يشيعون بينهم الأراجيف وفينا من يسمع أقوالهم، ولذلك قال: {...وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ[8]}[سورة المنافقون] .
هذا الضمان، وهو العلو والارتفاع والعزة لا تكون إلا لأهل الإيمان بإيمانهم وأعمالهم، وما يقوم في قلوبهم من صالح العمل، فإن العمل الصالح من الجند الذي ينصر الله به أهل الإسلام، والتي يحصل بها حفظ أهل الإسلام ويقي بها أهل الإسلام مكراً عظيماً، قد لا ندركه ولا نتخيله، قال الله في وصف مكر أعداء الدين لأهل الإسلام:{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ[46]}[سورة إبراهيم] . أي مكراً عظيماً تزلزل منه الجبال، وتزول من أماكنها لكن الله لهم بالمرصاد وهو من ورائهم محيط، وقد قال الله للمؤمنين- وهم في حال ضعف في غزوة أحد لما أصيبوا وقتل منهم من قتل وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وسقط في الحفرة وأصابه ما أصابه-:{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[139]}[سورة آل عمران] .
إن الإيمان علوه لا ينكسر في هزيمة عسكرية، ولا بانحسار مادي، ولا بضعف في صناعة أو غير ذلك، أهل الإيمان لا يعلو شأنهم، ولا يكون لهم الدولة دون غيرهم إلا بالإيمان الذي علق الله به العلو :{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ[110]}[سورة آل عمران] . -:{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[139]}[سورة آل عمران] . فهذا العلو لا يكتسب من انتصار في معركة، ولا يكتسب من إتقان صناعة آلة أو غير ذلك- وإن كان ذلك من الأسباب التي يظهر فيها العلو- لكنهم عالون، ولو لم يكونوا كذلك، وانظر إلى شأن العرب عندما خرجوا يقاتلون الروم وفارس، كيف كانت حالهم؟ إنهم كانوا من أهل التردى في الصناعة، وفي القتال وفي معرفة فنون التقدم، لكنهم فاقوا خصومهم أكبر الدول في ذلك الوقت الروم وفارس، فاقوهم بإيمانهم وما معهم من اليقين، ولقد حقق الله لرسوله صلى الله عليه وسلم علو الدين، وظهوره وارتفاعه على كل ملة، بدت بشائر ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يمت عليه الصلاة والسلام إلا وقد دانت لهم أهل الجزيرة كلهم حتى لم يبقَ فيها من يعبد غير الله، ثم إن الصحابة واصلوا المسيرة، وقد بدأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيش الذي عقده قبل وفاته، جيش أسامة، فأمضاه أبو بكر رضي الله عنه، فكان ذلك فاتحة النصر وظهور الدين في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا تحققنا في أي زمان، وفي أي مكان، بوصف الإيمان؛ فإننا موعودون بالنصر، والله لا يخلف الميعاد، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ[21]}[سورة يوسف] .
الوقفة الثانية:
وعد الله لأهل الإيمان بالعلو والظهور،لا يلزم منه ولا يستفاد منه، أنه لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، بل سيصيبهم: كما قال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ[155]}[سورة البقرة] . فلابد من البلاء ليتميز الصالح من غيره، فالبلاء سنة الله في عباده وأوليائه وأعدائه:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ[31]}[سورة محمد] . إن الذين يدعون الصدق والإيمان و الصلاح في وقت السعة والرخاء كُثر، لكنهم يمحصون وتمحص سيئاتهم، وتقلل عنهم ما حملوه من أوزار الخطايا بسبب ما يصيبهم من هذا البلاء؛ فيصفو معدنهم وما في قلوبهم من الإيمان بتلك البلايا {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ[4]}[سورة محمد] .
إن البلاء الذي يبتلي الله به أهل الإسلام من ضعف أو هزيمة، إنما هو لحكمة بالغة لا تتحقق بغير هذا السبيل، ولذلك كان ابتلاء الله لعباده الصالحين من دلائل الصدق الذي يخص الله به أصفياءه، الناس يبتلون ويمتحنون على حسب إيمانهم الأمثل فالأمثل، الأنبياء أشد الناس بلاء، ثم الصالحون، ثم الأمثل، فالأمثل، يبتلى الرجل على قد ما معه من الإيمان .
هذا البلاء له حكم بالغة أشار الله منبهًا الصحابة في وقعة بدر إلى بعضها قال سبحانه وتعالى:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ[179]}[سورة آل عمران] .