ثالثًا: من حيث المحل:
1- معصية القلْب: من ذلك اعتقادُ الشَّريك والولد، وكاعتقاد ما يُنافي حقيقةَ التَّوحيد بمراتبه الثَّلاث، ومن ذلك الرِّياء والعُجْب والكِبر، والغِلّ المذْموم، والحقد والحسد، والخوف من غير الله - تعالى - والتوكُّل على غير الله - تعالى - ورجاء غير الله - سبحانه.
2- معصية اللِّسان: ومن ذلك النُّطق بالكُفر، والكذب والغيبة والنميمة، وإفشاء الأسرار، والجهر بالسُّوء من القَوْل.
3- معصية الجوارح: كالقتْل والسرقة، والزّنا وشرب الخمر، والسَّير في المعاصي، والتواجُد في أماكنها، والسَّعي في الصدِّ عن سبيل الله - تعالى.
رابعًا: من حيث ما يترتب عليها من آثار:
1 - مكفِّرة:
مِن الذُّنوب ما يكفر صاحبُها، كاعتقادِ الشَّريك والولد، واعتقاد القبوريِّين في الأموات بالخوف منهم، والطلب منهم، وصرْف مختلف العبادات التي لا تكون إلاَّ لله - تعالى - إليهم.
ولْيُعلمْ أنَّ التكفير إذا قُصد به المعيَّن لزم إقامةُ الحُجَّة، بتحقُّق الشروط، وانتفاء الموانع؛ كما هو مقرَّر عند أهل العلم من أهل السُّنة والجماعة.
2 - مفسِّقة:
الذُّنوب المفسِّقة هي الكبائر، والإصرار على الصَّغائر، والدَّليل على ذلك قولُ السفاريني[8]:
وَيَفْسُقُ المُذْنِبُ بِالكَبِيرَهْ
كَذَا إِذَا أَصَرَّ بِالصَّغِيرَهْ
وقد أشار الشَّيخ ابن عُثيمين - رحِمه الله - إلى نحو قوْل الإمام السَّفاريني، كما في شرحه للواسطيَّة[9]: وأمَّا ما سوى ذلك من الذُّنوب فلا يكفر به المرء، ولا يستحقُّ وسمَ الفِسق، بل هو عاصٍ بذنبه، ما لم يداومْ عليه، أو يستغفر منه.
خامسًا: من حيث الخلوص من تبعاتها:
1- ما تُكفِّره الأعمال الصالحة:
قال الإمام ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم": "اختلف النَّاس في مسألتَين، إحداهما: هل تكفِّر الأعمالُ الصالحة الكبائرَ والصغائرَ، أم لا تُكفِّر سِوى الصغائر؟ فمنهم مَن قال: لا تُكفِّر سوى الصغائر....- فذكر الخلاف بأدلَّته، ثمَّ قال -: والصَّحيح قول الجمهور: إنَّ الكبائر لا تُكفَّر بدون التَّوبة؛ لأنَّ التوبة فرضٌ على العباد، وقد قال - عزَّ وجلَّ -: ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات: 11]، وقد فسَّرتِ الصَّحابة - كعمر، وعلي، وابن مسعود - التَّوبةَ بالنَّدم، ومنهم مَن فسَّرها بالعزْم على ألاَّ يعود، وقد رُوي ذلك مرفوعًا من وجه فيه ضعفٌ؛ لكن لا يُعلم مخالفٌ من الصحابة في هذا، وكذلك التَّابعون، ومَن بعدهم؛ كعُمر بن عبدالعزيز، والحسن، وغيرهما، وأمَّا النصوص الكثيرة المتضمِّنةِ مغفرةَ الذُّنوب، وتكفير السيِّئات للمتَّقين؛ كقوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنفال: 29]، وقوله - تعالى -: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التغابن: 9]، وقوله: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ [الطلاق: 5] - فإنَّه لم يُبيِّن في هذه الآياتِ خِصالَ التقوى، ولا العمل الصَّالح، ومن جُملةِ ذلك التَّوبة النصوح، فمَن لم يتب فهو ظالم، غير متقٍّ، وقد بيَّن في سورة آل عمران خصالَ التَّقوى التي يَغفر لأهلها، ويُدخِلهم الجنَّة، فذكر منها الاستِغفارَ، وعدم الإصرار، فلم يضمن تكفيرَ السيئات ومغفرةَ الذّنوب إلاَّ لِمَن كانت هذه الصّفة له، والله أعلم"[10].
2 - ما لا يكفّره إلاَّ التَّوبة:
وهي الكبائر مِن الذُّنوب؛ كما مرَّ في عبارة الحافظ ابن رجب.
3 - ما يُشترط فيه ردُّ الحقوق والإبراء منها:
كالغصْب والسَّرِقة، وجحْد العرايا والأمانات، وأكْل الأموال بالباطل.
خامسًا: أسباب الذنوب:
وليعلم المرءُ أنَّ أصول الذّنوب قد ترجع إلى ثلاثةِ أصولٍ كبرى، يتفرَّع عنها باقي الأنواع والمراتب من الذّنوب والمعاصي؛ وهذه الأصول هي:
1- الجهل بالله - تعالى - وأسمائه وصفاته، ومُقْتضى ذلك فراغُ القلب وخُلوّه من استشْعار تلك المعاني الدَّافعة إلى العمل لإرضاء الله - تعالى - والتلذُّذ بالتعبُّد له وحدَه، وصرْف كلِّ ما منَّ الله - سبحانه - به على العبد إليه - تعالى - والقيام بمراسم العبوديَّة على أكملِ وأفضل وجهٍ ممكنٍ من الخضوع والاستسلام.
2- الجهْل بحقيقة الدنيا، وغرور متاعِها وزواله، وكَوْن الدُّنيا دارَ ممرٍّ، لا دار مقرٍّ، وكون النَّاس لا يُقدِّمون ولا يؤخِّرون، ولا يَملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ولا ضرًّا ولا نفعًا لأنفسهم، فضلاً عن غيرهم من الخَلق، وكون الناس محلاًّ لظهور آثار التعبُّد لله - تعالى - لا التعلُّق بهم عن التعبُّد لله - تعالى - سواء كان هذا التعلُّق بظنِّ جلْبِهم للنَّفع أو دفعهم للضّرّ.
3- الجهل بحقيقة الدَّار الآخرة، وما أعدَّ الله - تعالى - فيها من نِعمٍ ومنح، وبركات وخيرات، حِسيَّة ومعنويَّة لعباده المؤمنين، مع الخلود الدَّائم، وازديادِ الرِّضوان من الله - تعالى.
فإذا اجتمعتْ بصورة كلّيَّة أو جزئيَّة في قلب عبدٍ من العباد، وقع في المعاصي، والنَّاس في ذلك متفاوِتون بسبب الإيمان، والأحوال والأزمان، والبقاع والمثيرات والأغراض، والمصالح والمنافع والمضار، واللَّذة والألم، وغير ذلك من الأفراد الَّتي في مجموعها تُشكِّل لحظةَ السُّقوط في المعصية.
سادسًا: آثار الذنوب:
ويمكن - في الجملة - إرجاعُ آثار الذُّنوب إلى قسمين:
الأول: آثار عاجلة:
وهذه تظهر فيما بين العَبدِ وربِّه، وفيما بين العبد والنَّاس، وفيما بين العبد ونفسِه.
الثانية: الآثار الآجلة:
وهذه تظهر للعبد في القبر والحشر، والحساب والدار الآخرة، وفي مآله، ما لم يتداركْه الربُّ - تعالى - برحمته وفضله، لا بعدله.
وأذكر طرفًا من آثار الذنوب، التي أشار إليه العلاَّمة ابن القيم في "الداء والدواء"؛ لتكونَ حافزًا على هجْر الذَّنب، وإلقاء النفس بين يدي الله - تعالى - خوفًا وطمعًا، رغبةً ورهبةً، لعلَّ الله - تعالى - أن يعصمنا ويتداركَنا برحمته في الدنيا والآخرة، فقد ذكر رحمه الله - تعالى - من آثار الذنوب:
1- حرمان العلم.
2- حرمان الرزق، وتعسير أموره عليه.
3- وهن القلب والبدن.
4- حرمان الطاعة.
5- تقصير العمر.
6- المعصية تجرّ إلى معصية بعدها.
7- ضعف القلب عن الطاعة إلى المعصية.
8- انسلاخ استقباح المعاصي من القلب، فتصير عادة.
9- هوان العبد على ربِّه، وسقوطه من عينه.
10- تأثُّر الناس والدواب بشؤم معاصيه.
11- إرث الذُّل.
12- الطَّبْع على القلب.
13- الدُّخول فيمَن لعنه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
14- حرمان دعوة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والملائكة.
15- تغيُّر الكون من خسف وزلازل، وكل مظاهر الخلل والإفساد في الأرض، وخروجها عن طبيعتها.
16- الخروج من الإحسان.
17- الحرمان مِن رفقة المؤمنين، وأهل الصلاح.
18- المعصية تُجرِّئُ على الإنسان أعداءَه.
19- عمى القلب والبصيرة، والخذلان في الأقوال والأعمال.
20- اندراج العبد في جُند الشيطان، وتكثير سواد حزبه.
وليعلم المرء أنَّ الله - تعالى - يغفر الذنب، ويقبل التَّوب، ما لم تَطْلُعِ الشمس من مغربِها، وما لم تبلغ الرُّوحُ الحلقومَ، ويبدل السيِّئاتِ حسناتٍ؛ بعينها، أو بالإعانة على كسبها، والله - تعالى - غفور رحيم، لا يُعْجِزه ذنبٌ، بل يغفر الشِّرك فما دون ذلك من كبائِر وصغائر لِمَن تاب، وقد يسْمو التَّائب - بفضْل الله ومنِّه وكرمه - حتَّى يرتقيَ إلى منازل المقرَّبين من رُفقاء النبيِّين والصدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا.
[1] (1 /1692).
[2] (4 /37).
[3] انظر شواهد ذلك "لسان العرب" (15 /63).
[4] "الكوكب المنير"؛ لابن النجَّار (2 /397).
[5] "مدارج السالكين" (1 /230).
[6] (2 /439).
[7] (2 /304).
[8] (1 /364).
[9] (1 /364).
[10] (ص210).