وبعد هذه الصفحات القاتمة من حال معذبي الحب , سأنتقل بكم إلى أنصع وأجمل صفحة في تاريخ البشرية , الصفحة التي كان الحب فيها مثالا يحتذى للمحبين , كيف لا , وهو الذي جعله الله عز وتبارك أسوة وقدوة للناس في كل شيء من أخلاقه وعباداته وتصرفاته وتعاملاته !!!
إنها صفحة النبي الأعظم صلوات ربي وسلامه عليه ما كرّت الأعصار وما تعاقب الليل والنهار .
ولي وقفات مع حبه صلى الله عليه وسلم , ابدأها بحبه صلى الله عليه وسلم لزوجاته :
روى أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وكان له غلام يقال له انجشة يحدو بإبل النساء ويسرع المشي فقال له صلى الله عليه وسلم : " رويدك يا أنجشة لا تكسر القوارير أو قال سوقك بالقوارير " أخرجه البخاري 5/2278 , ومسلم 7/87 .
قال أبو قلابة – رحمه الله - : " فتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه , قوله ( سوقك بالقوارير ) " , وقال البغا شارح البخاري لأن فيها ملاطفة وتوددا إلى النساء .
وجاء في الصحيح عن عائشة – رضي الله عنها - قالت كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيّ فيشرب , وأتعرّق العِرْق وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيّ " أخرجه مسلم 1/168 .
وقد سأله عمرو بن العاص – رضي الله عنه – عن أحب الناس إليه صلى الله عليه وسلم فقال : " عائشة , قال من الرجال ؟ قال : أبوها , قال : ثم من ؟ قال : عمر " كما جاء في الصحيحين , البخاري 3/1339 ومسلم 7/109 .
فهل رأيتم حباً أعظم من هذا ؟ أن يُسمّي المُحِبُ محبوبه على الأشهاد ليتناقله الرواة جيلا بعد جيل !!!
فإن تعجبوا من هذا فقد جاء في مسند الإمام أحمد أعجب من هذا بمراحل !!!
أخرج الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في نزع الموت : " إنه ليهوّن عليّ أني رأيتُ بياض كفِ عائشة في الجنة " المسند 6/ 138 وفي السند رجل مجهول إلا أن ابن كثير جوّد إسناده وهو صالح .
فيا الله أي حب أعظم من هذا ؟ أين العشـّاق عن مثل هذا الحب الشريف العفيف ؟ أين صرعى الهوى والهيام أتباع الشيطان عن إتباع هذا الرسول الكريم بنفسي وأهلي صلى الله عليه وسلم ؟
قال ابن القيم – رحمه الله - : " فلا عيب على الرجل في محبته لأهله وعشقه لها إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبة الله ورسوله , وزاحم حبه وحب رسوله , فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة , وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة " إغاثة اللهفان 2/139 .
وانتقل بعد هذا إلى حبه صلى الله عليه وسلم لأصحابه , ولعلي أقتصر على حبه لصاحبه في الغار وصفيّه من المهاجرين والأنصار , أبو بكر الصديق – رضي الله عنه وأرضاه .
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال : " كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم , إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما صاحبكم فقد غامر , فسلّم وقال : إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى عليّ فأقبلت إليك , فقال صلى الله عليه وسلم : " يغفر الله لك يا أبا بكر " ثلاثا , ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أثمَّ أبو بكر ؟ فقالوا : لا , فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلّم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعّر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال يا رسول الله والله أنا كنت أظلم (مرتين) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبتَ وقال أبو بكر صدق , وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركوا لي صاحبي , هل أنتم تاركوا لي صاحبي " قال أبو الدرداء : فما أوذي بعدها " 3/1339 .
وجاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنه ليس من الناس أحدٌ أمنّ عليّ في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة , ولو كنت متخذاً من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا , ولكن خلة الإسلام أفضل , سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر " البخاري 1/187 , ومسلم 4/1854 .
فأين أصحاب الحب المتلطخ بالمصالح الدنيوية عن هذه الأمثلة من الحب العظيم , والوفاء المنقطع النظير ؟؟؟
ولعلي أختم بحبه صلوات ربي وسلامه عليه لأمته .
فقد جاء في الصحاح والسنن في حديث عرصات يوم القيامة وتدافع الأنبياء للشفاعة عند الله عز وجل للناس أنهم يأتون للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول أنا لها , فيستأذن على الله فيؤذن له صلى الله عليه وسلم ويلهم محامد يحمده بها ويخّر لله ساجدا فيقال : يا محمد ارفع رأسك , وقلْ يسمع لك , وسلْ تعط , واشفعْ تشفّع , فيقول يا ربِ أمتي أمتي " .
وجاء في الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم ( رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ) الآية ,
وقول عيسى عليه السلام ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وقال : اللهم أمتي أمتي وبكى , فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلي محمد "وربك أعلم " , فسله ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله , فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال , وهو أعلم سبحانه , فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك " . أخرجه مسلم 1/132 .
فهل في العالمين قلبٌ كقلبه صلى الله عليه وسلم ؟ أو في العالمين شخصٌ كشخصه ؟
فكل محبٍ لا يُجري محبته التي فطره الله عيها على ما أجراها رسول الله صلى الله عليه وسلم , فحبه باطل وهو كاذب في دعوى المحبة ولو أشهد جوارحه على ذلك .
اللهم طهر قلوبنا وقلوب المسلمين واعصمنا من الشيطان وأجعل حبنا فيك ولك , اللهم أهدي شباب المسلمين وفتياتهم وردنا وإياهم إليك ردا جميلا .
أخوكم / موسى الغنامي