سيكولوجية الترمل: كيف يواصل الأرامل حياتهم بنجاح؟
أ. د. ناصر أحمد سنه
يمثِّل الترمُّل "أزمة" نفسية واجتماعية لمن يمُرُّ بها، فكيف تمرُّ بسلام؛ كي يواصل الأرامل، نساءً ورجالاً، حياتهم بنجاح؟
مات الزوج أو الزوجة، فالتفَّ الجميع حولها/ حوله معزِّيًا ومواسيًا، لكن ما إن انتهت أيام العزَاء والمواساة حتَّى لفَّتْهما الوَحْدة، وباتَا يجترَّان ذكرياتهما، ويعانيان - وحْدَهما - مأساة الفَقْد، والقلق على المستقبل، وحدوث الترمل في مرحلة الشيخوخة مأساة قاسية؛ فوفاة أحَدِ الزوجين يعدُّ بالنسبة لِمُسِنٍّ كارثة مؤلِمة، وحدثًا حزينًا، ومشكلة عويصة، فهو يحدث في الوقت الذي يكون فيه الإنسان في أمسِّ الحاجة إلى الرفيق والأليف والمُعِين، وبشكل عامٍّ فإن الرِّجال أكثر تأثُّرًا وحزنًا؛ ولهذا فهم يلحقون بزوجاتهم المتوفيات بشكل أسرع من النساء.
بَيْد أن "أزمة" الترمُّل هي أشد وطئًا وعِبئًا على الأرملة، مقارنة بنظيرها الأرمل، ولأنَّ الزوج عادة ما يموت أوَّلاً، فتَضْطلع الزوجة (الأرملة) بِدَوره، مما يُضْفي على الترمل صفة "الأنثويَّة" على وجه العموم، فهي بَعد فَقْد عائلها تواجِه - منفردة في غالب الأحيان - مسؤولياتِها والكفاحَ مِن أجْل إعالة أولادها، فضلاً عن معاناتها من نظرة بعض المجتمعات لها كونها بلا زوج، فنرَاهم يحسبون عليها حركاتها وسكناتها، بل وأنفاسها.
يرى البعض أن حياة المرأة سلسلة من "الانتظارات"؛ إذْ هي تنتظر الحُبَّ، فالزواج، فالحمْل، فالولادة فالأولاد، فنُمُوَّهم، فزواجهم... وهلمَّ جرًّا؛ لذا فهي - وبخاصَّة في مجتمعاتنا العربية - تعلِّق كثيرًا من الآمال على الزواج، وتَشْعر بأنه - اجتماعيًّا - هو كل حياتها، بل و"تنتظر" من الزوج العائل والسَّند "أسباب" تلك الحياة، ومبرِّرًا من "مبرِّرات وجودها"، وفي المقابل فإنَّ المجتمع العربي ما زال ينظر للأرملة نظرةَ تعاطُف وتراحم، باعتبارها ذات ظروف خاصة، تحتاج لمن يساندها، ويَدْعم رعايتها وكفالتها هي وأبناءها.
ومِن ثَمَّ فانفضاض مؤسَّسة الزواج - ترمُّلاً - قد يولِّد لديها معاناة تَنْطوي على معانٍ نفسية وعاطفية واجتماعية واقتصادية أعْمق مما قد يتولَّد عند الزوج الأرمل، فالأرمل - وبخاصَّة المُسِن - قد يواجه مشاكل أخرى تختلف عما تواجهه الأرملة؛ إذْ يجد صعوبة فيما لم يَعْتَد عليه، مثل إدارة الشُّؤون المَنْزلية وغيرها، وهذا ما قد يَدْفع به إلى الزواج مرَّة أخرى، أمَّا هي فقد يحدث لها مرحلة من "عدم الاتِّزان"، والانعزالية؛ فإمَّا أن تتماسك، لِتَقوم بتحمُّل مسؤولياتها، والنهوض بأعباء إعالة أولادها لامْتلاكها قوَّة الإرادة والعَزْم والمثابرة، والمَقْدرة على تحمُّل وتجاوز الصَّدمات، فتقوم بدور الأمِّ والأب معًا، وإمَّا أن تنهار؛ استسلامًا للعديد من الآلام.
آلام متَعَدِّدة
تتألَّم الأرملة من افتقاد أجوبة على أسئلةِ صغارها: "لماذا تأخَّر أبي؟، طيب دعيني أكلِّمه في التليفون [الهاتف]؟ هل هو غضبان منا يا أمي؟ لماذا قُتِل؟ أخبريه أن يعود؛ فلقد أوحشَنا كثيرًا غيابه؟ هل سيكون معنا في العِيد؟ أين ذهبَت سيارته؟ لقد نسي أبي "جواله"، وساعته في الدولاب، لكن لماذا ذهبتم بملابسه؟ لماذا يأتي أبو أصحابي ليأخذهم من الحضانة/ المدرسة، وأنا لا؟ ... إلخ".
ونراها تتألَّم حينما ترى نظرات الشَّفقة في أعين بعض مَن حضَروا لعزائها، وهي تتمنَّى أن يُعامَل أطفالها معاملة عادية؛ حتَّى لا يتولَّد لديهم "شعور بالنَّقْص"، وتتألَّم عندما تتسلَّم شهادة وفاة زوجها الأثير، وتتألم في إنهاء إجراءات الميراث والمعاش والوصاية و"المشكلات المالية"، وتتألَّم من طمع بعض الأقارب في الميراث، وتتألَّم من تصرُّفات بعض أهل زوجها، وتتألم لتعرُّضِها للمجتمع بلا غطاء من زوج، وتتألم لابتعاد جاراتها وصديقاتها عنها، وخوفهنَّ على أزواجهن منها، وتتألم مِنْ خشية أن يتكلَّم عنها الناس بِسُوء، وتتألم كلَّ يوم مع أيِّ شيء يذكِّرها بزوجها، في حين أنَّ كل شيء حولها وداخلها يذكِّرها به.
وهي تتعرَّض لصراع شديد، وبخاصة إذا كانت في مقْتَبل العمر، فتعاني صراعًا بين شعورها بعدم الاستقرار النفسي والأُسَري والعاطفي، و"الحاجة" إلى الزواج لسدِّ ذلك الفراغ المتعدِّد الجوانب، وبين الخوف على الأبناء ومستقْبَلِهم، وهي تواجه مشكلات ضاغطة اجتماعيًّا، لعل ما قد يخفِّف منها إذا كان الأبوان - أحدهما، أو كلاهما - حيَّيْن، تَعتبر معاودة الزَّواج نكرانًا أو جحودًا منها للزَّوج الراحل، ولو أرادت أن تتزوَّج ولديها أبناء تبدأ مشاكل الحضانة، وأحيانًا يَطلب أهلُ زوجها الراحل منها الزواجَ من أحد أفراد العائلة، وذلك من أجل الأولاد، و"كرامة العائلة".
وقد يتغلَّب حبُّ الأبناء والخوف عليهم فتكرِّس بقيَّة حياتها لهم، بَيْدَ أنَّ صعوبات الحياة ومتطلَّباتها الحاضرة، وتمثِّل أعباء الأب والأمِّ في نفس الوقت، دورًا - لا شكَّ - صعبًا؛ لذا فقد تتطوَّر تلك الصراعات إلى قلق وإحباط، وانعزال واكتئاب، مما ينعكس على أبنائها، والمحيطين بها؛ باعتبارهم سببًا يَحُول دون سعادتها.
وهي تخشى - بعد سنوات سعَتْ فيها إلى لَمِّ شمل أسرتها، ورعاية مصالحها - ذلك الوقت الذي يمضي فيه أبناؤها مع زوجاتهم ويتركونها وحيدة، أو يَدْعُونها للعيش معهم، ولكنَّها تَكْره أن تكون ضيفًا ثقيلاً على أسرة، حتَّى ولو كانت أسرة أحد أبنائها.
وبسبب كلِّ ذلك وغيره نجد أنَّ كثيرًا من الأرامل (بعض الدراسات تشير إلى نسبة 35 %) يتعرَّضن للعديد من الأمراض والحوادث، أو نراها قد تعايشت - بصورة أو بأخرى - مع واقعها وحياتها الجديدة، وبخاصة عندما ترى أنَّها ليست وحيدة، فحولها من العراقيَّات فقط نحو مليون ونصف أرملة، فضلاً عن أرامل الشهداء من الفلسطينيين الذين يتساقطون يوميًّا جَرَّاء عمليات القتل والاغتيال الصِّهْيَوني، إضافةً إلى الأرامل من الصومال ودارفور... إلخ.