عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 2  ]
قديم 2010-08-17, 5:52 PM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي

وتذكَّر قول الحبيب - صلى الله عليه وسلم - لعبدالله بن زيد، عندما جاء بصيغة الأذان، رغم أنها مشروعُه ورؤيته وعملُه، إلاَّ أنَّ النبي قال له: ((اذْهب إلى بلال؛ فإنَّه أندى منك صوتًا))، فصدع بها بلال بن رباح - رضي الله عنهم - وأرضاهم، حتى اقترنَ اسمُه بالأذان، وكان مؤذِّنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

وتذكَّر قولَ الله - عز وجل -: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 29].

يقول صاحب "الظلال" في هذه الآية: "وهلة المفاجأة بهذا القرآن للجنِّ مفاجأة أطارتْ تماسُكَهم، وزلزلتْ قلوبَهم، وهزَّتْ مشاعرَهم، وأطلقتْ في كيانهم دفْعَة عنيفة من التأثُّر امتلأ بها كيانُهم كلُّه وفاضَ، فانطلقوا إلى قومهم بنفوس محتشدة مملوءة فائضة بما لا تملك له دفعًا، ولا تملك عليه صبرًا، قبل أن تفيضَه على الآخرين في هذا الأسلوب المتدفِّق النابض بالحرارة والانفعال، وبالجِدِّ والاحتفال؛ ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا ﴾ [الجن: 1]، فأوَّل ما بدا لهم منه أنه عجبٌ غير مألوف، وأنه يثيرُ الدهشة في القلوب، وهذه صفة القرآن عند مَن يتلقَّاه بحسٍّ واعٍ، وقلبٍ مفتوح، ومشاعر مُرْهَفَة، وذَوق ذوَّاق، عجبٌ ذو سلطان مُتَسلِّط، وذو جاذبية غلاَّبة، وذو إيقاع يلمسُ المشاعر، ويهزُّ أوتارَ القلوب، وهؤلاء هم الجن مبهورين بالقرآن، مسحورين متأثِّرين أشدَّ التأثُّر، منفعلين أشدَّ الانفعال، لا يملكون أنفسهم من الهزَّة التي ترجُّ كيانَهم رجًّا، ثم يعرفون الحقَّ فيستجيبون له مذعنين مُعلنين هذا؛ أخرجَ الترمذي بإسناده عن جابر - رضي الله عنه - قال: خَرَجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن إلى آخرها فسكتوا، فقال: ((لقد قرأتُها على الجنِّ فكانوا أحسنَ ردودًا منكم، كنتُ كلَّما أتيتُ على قوله - تعالى -: ﴿ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾، قالوا: لا بشيءٍ من نعمك ربَّنا نكذِّبُ، فلك الحمدُ))،...

وهذه كتلك تصوِّر الأثرَ الذي انطبعَ في قلوبهم من الإنصات للقرآن، فقد استمعوا صامتين مُنْتبهين حتى النهاية، فلَمَّا انتهتِ التلاوة، لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومِهم وقد حملتْ نفوسُهم ومشاعرُهم منه ما لا تطيق السكوتَ عليه أو التلكُّؤ في إبلاغه والإنذار به، وهي حالة مَن امْتلأ حِسُّه بشيءٍ جديد، وحفلتْ مشاعرُه بمؤثِّر قاهر غلاَّب يدفعُه دفعًا إلى الحركة به، والاحتفال بشأنه، وإبلاغه للآخرين في جِدٍّ واهتمامٍ".

هذه الحقيقة التي يدركُها الجنُّ، ويغفلُ عنها البشرُ، ولا يَخْفَى ما في هذه اللفْتَة من إيحاء عميقٍ مُتفِق مع ما جاء في السورة، كذلك ما يردُ في كلام الجنِّ من الإشارة إلى كتاب الكون المفتوح ودلالته على قُدرة الله الظاهرة في خَلْق السماوات والأرض الشاهدة بقُدرته على الإحياء والبعث.

وتأمَّل حديثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يسأل فيه ربَّه مستغيثًا بأسمائه الحُسْنى وصفاته العُلى: ((اللهمَّ إني أسالك بكلِّ اسمٍ هو لك، سمَّيتَ به نفسَك أو أنزلتَه في كتابك، أو علَّمْتَه أحدًا من خَلْقك أو استأثرْتَ به في عِلْم الغيب عندك - أن تجعلَ القرآن العظيم ربيعَ قلوبنا، ونورَ أبصارنا، وجلاءَ همومِنا وأحزاننا)).

فمن المؤكد أن تستشعرَ في آهات دعاء النبي أنَّ القرآن الكريم هو نورُ الأبصار، وربيع النفوس، وكاشفُ الهَمِّ والغمِّ، وشفاءٌ لِمَا في الصدور، ورحمة للمؤمنين، وفرقان للحيارَى، وإرشاد للمهتدين، وإنذارٌ للأحياء، ويحقُّ الله به القولَ على الكافرين.

وللتعبُّد بالقرآن - قراءةً وسماعًا وتدبُّرًا - نورٌ وحلاوة، ويُعَدُّ سماعُ القرآن الكريم عبادة صامتة يغفلُ عنها الكثيرون؛ يقول الله - عز وجل -: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 204].

ويقول ابن بطَّال تعليقًا على هذا الحديث، كما وردَ في "فتح الباري"‏:‏ "يُحْتملُ أن يكون الرسولُ قد أحبَّ أن يسمعَه من غيره؛ ليكونَ عرْضًا، أو أن يكونَ لكي يتدبرَه ويتفهَّمَه، وذلك أنَّ المستمع أقوى على التدبُّر ونفسُه أنشطُ من القارئ؛ لاشتغاله بالقراءة وأحكامها".

ويبدو أن عدمَ التدبُّر من صفات أعمى القلب؛ فلقد نَعَى الله - تعالى - على الكفَّار عدمَ استجابتهم للسماع، فقال: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].

يجبُ أن نسمعَ القرآن ممن نستشعرُ منه القرآن؛ فعن طاوس - رضي الله عنه - قال: "سُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الناس أحسن صوتًا للقرآن، وأحْسن قراءة؟ قال: ((مَن إذا سمعتَه، رأيتَ أنه يخْشى الله))؛

ولكن قد يتساءلُ سائلٌ: كيف أسمع القرآن وأنا في ضِيق؟
أولاً: إذا كانت هذه العبادة راحة للأبدان والعقول، وإشباعًا للنفوس؛ أفلا تستحقُّ أن تضحي من أجْلها؟ أما إذا ذُقْتَ لذَّتها، فستعرف أنت الجواب.
ثانيًا: السماع من أيْسر العبادات؛ فتستطيع أن تسمعَ في البيت، وفي العمل، وفي السيارة، وعلى كلِّ الأحوال، ما دُمْتَ حاضرَ القلب كيفما تكون؛ قائمًا أو جالسًا أو مُضجِعًا.

وتميلُ النفوس إلى سماع القراءة بالترنُّم أكثر مِن مَيْلها لِمَن لا يترنَّم؛ لأن للتطريب تأثيرًا في رِقَّة القلب وإجراء الدمع‏.

‏ويقول الإمام النووي - رحمه الله -‏:‏ "البكاء عند قراءة القرآن صفةُ العارفين وشعارُ الصالحين".

فإذا سَئِمْتَ من الناس جفاءَها، ومن الدنيا نكدَها، ومِن الحياة هَمَّها وحزنها، وتراكمتْ عليك الهمومُ والأحزان، لا تتردَّدْ في أن تستعيدَ البهْجة؛ فالطريق إلى السعادة يبدأ بكلام الله!!

إذا ذَبُلَتْ رياحين القلب، وخفتتْ إشراقاتُ النفْس، وتعطَّلتْ إبداعات العقل، فحتمًا سيتُوقُ الإنسان إلى العودة إلى الحياة ليحيا من جديد، بنور جديد، وبرُوح جديدة، يبصرُ بها طريقَ الحقِّ؛ فتفوح الرياحين في قلبه، ويشرق الأملُ في نفسه، ويتألَّق الإبداع في عقْله، ومِن ثَمَّ يدخلُ في حياة الروح وروح الحياة؛ ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].

اللهمَّ فقِّهْنا في ديننا، واجعلِ القرآن ربيعَ قلوبنا، وشفاءَ صدورنا، وذهابَ هَمِّنا وغَمِّنا، اللهمَّ اجْعلْنا مع النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، وحُسُنَ أولئك رفيقًا، اللهمَّ ارزقنا الإخلاصَ في القول والعمل، ولا تجعلِ الدنيا أكبرَ هَمِّنا ولا مَبْلَغَ عِلْمنا، وصلِّ اللهمَّ على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم، والحمد لله ربِّ العالمين.


توقيع يمامة الوادي




هل جربت يوماً اصطياد فكرة رائعة !؟
لـتـصوغـهـا فـي داخـلـك
وتـشحـنهـا بنبض قـلـبـك
وتعـطرهـا بطيب بروحك
وتسقـيـهـا بمـاء عـرقـك
حتى تنضج وتصنع منك إنساناً مبدعاً ؟