الجواب
وعليْكم السَّلام ورحمة الله وبركاته،
ليستِ المشكلة هيّنة أخي الفاضل, وللأسف كم تعُجّ بيوت المسلمين بمثلها مع تنوّع الأحداث واختلاف الشخصيَّات، لكن المشكلة شبْه متكرّرة؛ وذلك لبعد الكثير منَّا عن الدّين وانخراطنا في حياتنا الدّنيا، والصّراع الدَّؤوب على تِلْك الدَّار الفانية, فنسِي الكثير من النَّاس ما عليه من واجبات، ولَم يرَ إلاَّ ما له من حقّ على هذا وذاك!
مشكلة التَّوفيق بين الأهْل والزَّوجة مشكلة متكرّرة, بل إنَّ كثيرًا من الأزواج يعانيها مضاعفة, ويزداد حجم المشكِلة مع وجود أُخت بهذه الصّفات, خاصَّة إن كانت قد حرمت من نِعْمة الإنجاب؛ حيث تتنازَعُها الغيرة وتغلبها الظّنون, وتبدأ المشاعر السَّلبيَّة في السَّيطرة عليْها تجاه زوجة أخيها, فتبقى تتربَّص بها وتَكيل إليْها الاتّهامات وتنال منها، متى ما سنحت لها الفُرصة ووجدت من أَخيها سلبيَّة تشجِّع على المزيد من الظّلم.
إن كانت قد حدثت بيْنهنَّ - الأمّ والأخت والزَّوجة ووالدة الزَّوجة - مشادة كلاميَّة حول نظافة زوجتِك، أو عدم اهتِمامها بشؤون البيت, فكان بإمْكانك تهدِئة النفوس متى ما علمت ذلك, وإخْبار زوجتِك أمام والدتِها أنَّك غير مقتنع بما قيل، وأنَّك تراها زوجة فاضلة، وستنتهي المشكلة بالنّسبة لها.
أمَّا أن تترُك زوجتك بعد الإهانة في بيت أهلها أربعين يومًا, فيكفي أنَّك تعلم أنَّ في هذا ظلمًا لها!
صحيح أنَّ إرضاء النّساء ضرْبٌ من الخيال في بعض الأحيان, لكن تذكَّر أنَّ الله وهب الرّجال من الحكمة ورجاحة العقْل والقُدْرة على التحمُّل ما لَم يهَب النِّساء؛ ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [النّساء: 34].
قال الشَّيخ أبو بكر الجزائري في "أيسر التفاسير": ﴿ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾: بأن جعل الرَّجُل أكمل في عقْلِه ودينه وبدَنِه؛ فصلح للقوامة.
وقال ابن عجيبة في "البحر المديد":
"فاللَّبيب هو الذي يجمع بين الحقيقة والشَّريعة، فلا يضيّع مَن يعول، ولا يترك حقَّ مَن يتعلق به من الزَّوجة أو غيرها".
هذه الزَّوجة التي قبِلَتك زوجًا وارتضتْك أبًا لأبنائِها، وأمنتك على نفسِها, أليس من حقِّها عليك أن تَحفظها وترعى حقَّها؟!
أليس من حقِّها عليك - كما ورد في الحديث -: يا رسول الله، ما حقّ زوجة أحدنا عليه؟ قال: ((أن تطعمها إذا طعمت, وتكسوها إذا اكتسيْتَ أو اكتسبت, ولا تضرب الوجْهَ ولا تقبِّح، ولا تهجُر إلاَّ في البيت)), صحَّحه الألباني.
فالهَجْر لا يكون إلاَّ بسبب، ولا يكون إلاَّ في البيت, فكيف تتركها أرْبعين يومًا دون ذنب جنَتْه يداها؟!
قال عبدالله بن عمْرو: سمعت رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول :((كفى بالمرْءِ إثْمًا أن يضيّع مَن يعول))؛ السنن الكبرى للنَّسائي, وفي رواية: ((كفى بالمرء إثْمًا أن يضيّع مَن يقوت))؛ صحَّحه الألباني.
جَميع أطراف مشكلتِك من النساء: (الأم), (الزوجة), (الأخت) .. فأعانك الله بحقّ.
حقّ الأمّ يقدَّم على كلّ الحقوق, مع مراعاة عدَم الإجحاف؛ جاء رجُل إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسولَ الله، مَن أحقّ النَّاس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمّك)), قال: ثمَّ من؟ قال: ((ثمَّ أمّك)), قال: ثمَّ مَن؟ قال: ((ثمَّ أمّك)), قال: ثمَّ مَن؟ قال: ((ثمَّ أبوك)).
فحقُّها مقدَّم على الجميع، وعليْك البرّ بها، وتقديم المساعدة لها متى ما تيسَّر لك.
يليه حقّ الزَّوجة؛ لأنَّك تعُولها ومسؤول عنْها وعن بنيك, والله تعالى يقول: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 19].
فلا تظلم زوجتَك على حساب والدتِك أو والدِك أو غيرهما.
ثمَّ أخْتك الَّتي لها عليْك حقّ الصّلة, ولعلَّ أمرَها هيِّن, خاصَّة وأنَّها متزوِّجة, فلا حاجة لها لمساعدة مادّيَّة, أو رعاية صحّيَّة, وإنَّما التَّواصل والإحسان بالكلِمة الطَّيّبة والسؤال عنها.
الآن، كيف تستطيع التَّوفيق بين أصحاب الحقوق, أو بالأخصّ بين أمّك وزوجتك؟
بما أنَّك تَمتلِك مسكنًا خاصًّا بك, فلا تفرِض على زوجتك الإقامة عند أهلِك ما دامت لَم ترغب في ذلك, ولا يَجب عليْك إكراهُها على ذلك, فلا هي مأْمورة بخِدْمتِهم ولا بمحبَّتهم, وهم كذلك, فأنصحُك أن تُبقيَها في بيتها، ولا تضطرّها إلى المبيت عند أهلِها لشهْر أو أكثر أو أقلّ, بل تبقى في بيتِكما، وإن غِبتَ عنها قليلا, فلْتُسارع بالذَّهاب إليها وتفقُّد احتياجاتِها، والمبيت عندها متى انتهيْتَ من خدمة أبويك.
كما أنصحك أن تُحاوِل أن تستبدل بمسكنِك مسكنًا قريبًا من بيت والدَيك؛ فتراعي والدَيك المريضَين بشكلٍ يوْمي ولا تترك زوجتك تقاسي الوحدة, فإن كان بيْتُك قريبًا من بيتهم، تيسَّر لك الذَّهاب إليهم متى ما احتاجوا إليك, ولن تضطرَّ إلى الإقامة عندهم لمدَّة طويلة.
قد يتطلَّب هذا الأمْر بعض الوقْت، لكن إخبار زوجتك بهذا القرار يُشْعِرها بالرَّاحة والاطمِئْنان والرِّضا, ولعلَّها تصبر على هذا الحال وتسعى معك للبحْث عن مسكن بديل.
إن تيسَّر لك مصاحبة زوجتِك إلى بيت أهلِك، فلا تُجبرها على مجالسة أختك والحديث إليْها, ولتكن العلاقة بيْنهما محدودة؛ منعًا لحدوث المشكلات.
حاوِل أن تعوّض زوجتَك عن الأيَّام التي تَغيبها عنها بِمكافأة تُرضيها؛ كنزهة أو هديَّة أو شيء تحبُّه، مع بعض الكلِمات الطَّيّبة التي تكسبها الثّقة فيك، وتردّ إليها كرامتَها.
حاول أن توضّح لزوجتِك أنَّك وأختك متساويان في البرِّ بوالدَيكما, لكنَّك تختلف عنْها من حيث إنَّ أمرك في يدك, أمَّا أختك فأمرُها إلى زوجِها, متى ما أراد أن يذهب بها لوالدَيها ذهبتْ, ومتى ما أراد منْعَها فلن تتمكَّن من الذَّهاب.
أظهِرْ لزوجتِك أمام أهلها وأهلِك حبَّك لها، وأكثِرْ من مدحها أمامهم، ولا تنْسَ الثَّناء عليها وعلى صبرِها ومساعدتها لك في وقت حاجتِك, وستجِد المزيد من الصَّبر ومدّ يد العون, فالنّساء أضعف ممَّا تتوقَّع أمام الكلمة الطيّبة، خاصَّة إن كان أمام أهل الزَّوج، ثِق في ذلك, واعلم أنَّك متى ما احترمْتَها وأظهرت حبَّك لها واهتِمامك بأمرها أمام أهلك، فستتجنَّب تعريضَها للإهانة من جانبهم, بل سيُبادِرون إلى احترامها وحسن معاملتها وإن لم يستشعِروا محبَّتها.
يا أخي، ما الَّذي يعيب الرَّجُل في حسن خلقه مع أهله؟
أتُعيّرك والدتك - حفِظها الله - بأنَّك ضعيف أمام زوجتِك؟
إنَّ الإجابة على ذلك موجودة في السّنَّة النبويَّة المطهَّرة, فبإمكانك أن تُخبر والدتَك بأدبٍ وتلطُّف قائلا: ولِمَ لا أُحْسن معاملتَها؟! وما يضرّني أن أترفَّق مع زوجتي وقد كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يترفَّق مع زوجاته؟! وكان يسمح لعائشة - رضِي الله عنْها - من خلْف ظهرِه حتَّى تنظر إلى غلمان الحبشة وهم يلعبون؛ فيُدْخِل عليها من المرَح والسّرور ما يرفع مكانتَه عندها وعند النَّاس, فهل هذا من العَيب أو من الضَّعف أمام الزَّوجة؟!
يا أخي الفاضل:
برَّ أمَّك وأكثِرْ من الدّعاء لها, وأخبرها - ولو بأسلوب غير مباشر - أنَّ التَّعامل مع زوجة الابن ليس مستحيلاً كما تعتقِد بعض الأمَّهات، فإن وجدت منها ما يؤرّقها، فلتُحْسن المعاتبة وكأنَّها ابنتها, ولا تنسَ أن تُذكِّر زوجتَك بواجبِك نحو والدتِك، وأنَّ كسب قلبك في حُسن تعامُلِها معها، وأنَّ في الصَّبر على تلك المرْأة المسنَّة الأجر الكبير - بإذْن الله.
بِخصوص التَّفكير في وفاة الوالدَين فليس من العبث, ولكن ليكُن التَّفكير على نحوٍ أكثرَ إيجابيَّة, فلا داعيَ للتَّفكير في تعْزية الزَّوجة أو كلام النَّاس, بل فكِّر كيف تغتنِم الفُرصة للبرِّ بهما قبل أن يُحالَ بيْنك وبين ذلك!
لمَّا ماتتْ أمّ إياس القاضي المشهور بكى عليْها، فقيل له: ما بك؟
قال: كان لي بابانِ مفتوحان إلى الجنَّة فأغلق أحدُهُما.
الباب مفتوح أمامك الآن ولا تدري متى سيُغْلَق, فاحرِصْ على كسب الحسنات بالبرِّ بهما، وذكِّرْ زوجتَك بهذا الأجر العظيم, واطلُبْ منها التصبُّر على والدتِك, وشاركْها القراءة حول البرِّ بالوالدَين، وساعِدْها على البرّ بوالدَيها لتستشْعِر العدْل والصدْق في حديثك.
أمَّا عن التَّفكير في الطلاق, فليس هذا حلاًّ؛ إذ إنَّ الزَّوجة الجديدة - إن تيسَّر لك الزَّواج - لن يَختلف حالُها كثيرًا عن حال زوْجتك؛ فليس ذلك من الحكمة في شيء.
يقول الدكتور (Rick Brinkman) في كتابه "التَّعامُل مع مَن لا تُطيقُهم":
"عليك أن تنظُر للشَّخص الصَّعب نظرة مختلفة؛ وذلك بمحاولة فهْم الدَّوافع التي أدَّت به أن يسلك هذا السّلوك, سيُعينُك ذلك على التَّعامل معه.
كما أنَّ مصارحتَه بهدوء وتفهّم احتياجاته وإشْعاره بالثِّقَة والحبِّ والتَّقدير، مع البُعْد عن اللَّوم والتَّوبيخ والغضب - من الأمور المُعِينة على تغْيير سلوكِه وكسْب محبَّته".
وفَّقك الله ويسَّر أمرَك، وأعانَك على الصَّبر والاحتِساب وحسن التصرُّف.