3- أخرج البخاري (برقم 6943)، عن خَبَّاب بن الأَرَتِّ - رضي الله عنه - قال: شَكَونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسِّدٌ بردةً في ظلِّ الكعبة، فقلنا: ألا تستنصرُ لنا؟ ألا تدعو لنا؟
فقال: ((قد كان مَن قبلكم يُؤخَذ الرجلُ، فيُحفَر له في الأرض حُفرة فيُجعَل فيها، فيُجاء بالمِنشار، فيُوضَع على رأسِه فيُجعَل نصفَين، ويُمْشَط بأمشاط الحديد من دون لَحْمِه وعَظْمِه، فما يَصُدُّه ذلك عن دينه، والله ليتمَنَّ هذا الأمرُ حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حَضْرَمَوت لا يَخافُ إلا الله، أو الذئبَ على غَنَمِهِ، ولكنكُم تستعجلون)).
هذا الأملُ الكبير في وسط صَعْب، وظرف شديد! المسلمون يُعذَّبون في مكة ويُنكَّل بهم، ويَلقَون صنوفَ الأذى، ويشكون هذا الوضعَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول: وهو في الظرف العصيب: ((والله، ليتمنَّ هذا الأمرُ حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حَضْرَمَوت لا يَخافُ إلا الله، أو الذئبَ على غَنَمِهِ، ولكنكُم تستعجلون)).
إنَّ الأمور لا تأتي دائمًا على مُراد الإنسان، سواءٌ في أموره الدُّنيوية أم في أموره الدَّعوِيَّة، والمؤمن مُبتلًى، فعلى المرء العاقل المؤمن أن يصبر، وأنْ يُواجهَ الحياةَ بأملٍ، وأن يستبعدَ من طريقه اليأسَ، ولله دَرُّ من قال:
أَخْلِقْ بِذي الصَّبْرِ أَنْ يَحْظى بِحاجَتِهِ
ومُدْمِنِ القَرْعِ لِلأَبوابِ أَنْ يَلِجا
إن الإنسان مُعَرَّضٌ إلى المصائب؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].
ويقول: ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [آل عمران: 186].
ومما يَطْردُ اليأسَ التوكُّلُ على الله، والصبر، والاستمرار على السير في طريق الدَّعوة، ولْيَطْمَئِنَّ المؤمنون بأن العاقبةَ لهم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47].
وقال تعالى على لسان يعقوبَ: ﴿ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].
إنَّ الذي يطَّلعُ على ما يَجري في حياة المسلمين اليوم يتألَّم أشدَّ الأَلَم؛ لما يُعانونه من كَيْدِ الأعداء، ومحاولتهم سَحْقَ المسلمين والقضاء على يقظتِهم ونَهْضتهم، وإنه ليزيدُ في الأَلَم إعراضُ هؤلاء المسلمين عن الأخذ بأسباب القُوَّة والغَلَبة، وتَمادي كثير منهم في المعاصي، وتنكُّبهم سبيلَ الهدى، ومُخالفة أحكام الإسلام في جوانبِ حياتِهم المختلفة.
إنَّ المسلمين يواجهون واقعًا يُهدِّد وجودهم.
إنَّ قُوًى خفيةً وظاهرة، وقوى داخلية وخارجيَّة تناهضُ دينهم.
إنَّ معطيات العلم والحضارة المعاصرة تُسخَّر لمحاربتهم.
إنَّ غفلةَ كثير من المسلمين وانحرافَهم وتقصيرهم مما يُعين العَدُوَّ على تَحقيق كثيرٍ من مخطَّطاته.
ينبغي أن نعترفَ بأننا نعاني أزمةً خُلُقية، وأزمة رُوحية، وأزمة فكريَّة، وأزمة اجتماعية واقتصادية. هذا واقع، والاعترافُ به مُفيد للعمل على تغييره وإصلاحه، ولكنَّه يتحوَّل إلى خطرٍ عظيم إذا انتهى اعترافُنا به إلى اليأس.
قال تعالى على لسان إبراهيم: ﴿ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 56].
إنَّ الإسلامَ العظيم الذي حرَّم اليأسَ على أتباعه يُنادينا في هذه الآونة أنْ نأخذَ أنفسَنا بالعزيمة، ونواصل الجهد، ونسير في طريق الحقِّ والخير، نرجو ما عند الله من الثَّواب، فتهون في أعيننا العقبات والصُّعوبات.
إنَّ علينا أنْ نضاعِفَ من جهودنا في طلب العلم والقيام بما أمر الله به، والدَّعوة إلى سبيله وتوعية الناس بواقعهم والمخاطر التي تُحيط بهم.
وقد قيل: "لا يأسَ مع الحياة، ولا حياةَ مع اليأس".
وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
والحمد لله ربِّ العالمين.
ـــــــــــــــ
[1] رواه معلقًا برقم (3905)، ولكن ابن حجر قال في "فتح الباري" 7/240 - 241: هو موصول بحديث عائشة، وانظر: "البداية والنهاية" طبعة هجر 4/460 وما بعدها.
[2] انظر: "الاستيعاب" 2/119، و"الإصابة" 2/19، وكتاب: "أبو بكر"؛ لعلي الطنطاوي ص231، وكتاب: "تهذيب الأسماء واللغات"؛ للنووي: 1/210، وكتاب: "أخبار عمر"؛ لعلي وناجي الطنطاوي ص83، و"قصص من التاريخ"؛ لعلي الطنطاوي، ص231، و"أعلام النبوة"؛ للماوردي ص97.
[3] الكيدة والكدية بمعنًى واحد، وهي: الصخرة الصلبة.
[4] انظر في هذه القصة المراجع الآتية: "مسند أحمد" 4/303، والنسائي 6/43، وقال الألباني: حسن، و"سيرة ابن هشام" 3/230، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/417 وما بعدها، و"المعجم الكبير" للطبراني 11/376، و"البداية والنهاية" 6/20 - 31.