الاستثناء في الإيمان:
من صفة أهلِ الحقِّ الاستثناءُ في الإيمان، لا على جِهة الشَّكِّ، ولكن خوف التزكية لأنفسهم من الاستكمال للإيمان، وقد كان السلَف الصالح ينكرون على مَن يجزم بالإيمان، ويقولون له: أفأنت من أهل الجنة؟
قال رجل لعلقمة: أمُؤمن أنت؟ قال: أرجو - إن شاء الله - وقال يحيى بن سعيد: ما أدركتُ أحدًا من أهل العلم إلا على الاستثناء.
وقال سفيان بن عيينة: إذا سُئل: أمؤمن أنت؟ إن شاء لَم يُجبه، وإن شاء قال: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني.
وقال أحمد بن حنبل: إذا قال الرجل: أنا مؤمن - إن شاء الله - فليس بشاك، فقيل له: "إن شاء الله": أليس هو شكًّا؟ قال: معاذ الله، أليس قد قال الله تعالى: ﴿ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ ﴾ [الفتح: 27]، وفي علمه - سبحانه - أنهم يدخلون، ويُقال للمؤمن في قبره: ((على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تُبعَث - إن شاء الله))؛ فأي شك ها هنا؟
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء زيارة القبور: ((وإنا - إن شاء الله - بكم لاحقون)).
وقال الآجُرِّي: إذا قال لك رجل: أمؤمن أنت؟ فقلْ: آمنتُ بالله وملائكته وكتبه ورسله والموت والبعث من بعد الموت والجنة والنار، وإن أحببت ألا تجيبَه فقل له: سؤالك إياي بدعة فلا أجيبك، وإن أجبته فقل: أنا مؤمن - إن شاء الله - واحذر مناظرة مثل هذا، فإن هذا عند العلماء مذموم، واتِّبِع مَن مَضَى من أئمة المسلمين، تسلمْ - إن شاء الله تعالى.
فاحذروا قول مَن يقول: أنا مؤمن عند الله، وأنا مؤمن مستكمل الإيمان، وأنا مؤمن حقًّا، أو إيماني كإيمان جبريل وميكائيل، فهذه من بدَع المرجئة، نعوذ بالله من البدْعة، ونسأل الله تمام النعمة والهداية بأن يتوفَّنا على الإيمان والسُّنَّة وصالح العمل.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: والناسُ لهم في الاستثناء ثلاثة أقوال:
منهم من يحرِّمه؛ كطائفةٍ من الحنفية، ويقولون: من يستثنى فهو شاكٌّ، ومنهم من يوجبه كطائفة من أهل الحديث، ومنهم من يجوزه أو يستحبه، وهذا من أعدل الأقوال، فإن الاستثناء له وجه صحيح، فمَن قال: "أنا مؤمن إن شاء الله"، وهو يعتقد أن الإيمان فعل جميع الواجبات، ويخاف ألا يكون قائمًا بها - فقد أحسن، ولهذا كان الصحابة يخافون النِّفاق على أنفسهم.
ومَن اعتقد أن المؤمن المطلق هو الذي يستحقُّ الجنة، فاستثنى خوفًا من سوء الخاتمة - فقد أصاب، ومن استثنى خوفًا من تزكية نفسه أو مدحها، أو تعليق الأمور بمشيئة الله، فقد أحسن، ومَن جزَم بما يعلمه أيضًا في نفسه من التصديق، فهو مصيب.اهـ.
صفات المؤمنين في كلام رب العالمين:
قال تعالى: ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 1 - 5].
وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 134، 135].
وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [آل عمران: 191 - 194].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 2 - 4].
وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 20 - 22].
وقال تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾ [الفرقان: 63 - 76].
وأخيرًا:
فهذا غيضٌ من فيض، وصفات المؤمنين في كلام ربِّ العالَمين أعظم من أن نحيط بها في هذه العُجَالة، فاحرِصْ - أخي المؤمن - على تدَبُّر هذه الآيات، واستعنْ بالله على تحصيل هذه الصِّفات.
نسأل الله الهِدَاية والتَّوْفيق