الإيمان قول وعمل
د. جمال المراكبي
مِن أُصُول السنة والاعتقاد عند أهْل السُّنَّة والجماعة: أنَّ الإيمان قوْل وعمَل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
وأصْل الإيمان في لغة العرب: تصديق القلْب المتَضَمِّن للعلْم بالمصدق به؛ قال تعالى حكايةً عن إخْوَة يوسُف: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 17].
وأما تعريفه الشرعي: فهو جميع الطاعات الباطنة والظاهرة، فيَتَضَمَّن اعتقاد القلْب ونُطق اللسان وعمَل الجوارح، وهذا مذهبُ أهل السُّنَّة، خلافًا للمُرجئة، ومَن قال بأقوالهم.
قال البخاري: وهو قوْل وفِعْل، يزيد وينقص، وقال أحمد: السُّنَّة أنْ تقولَ: الإيمانُ قول وعمل، يزيد وينقص.
وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بن عدي: إنَّ للإيمان فرائض وشرائعَ، وحُدُودًا وسننًا، فمَن استَكمَلَهَا استَكمَلَ الإيمان، ومَن لَم يستكملْها لَم يستكملِ الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعمَلُوا بها، وإن أمُت فما أنا على صحبتكم بحريص.
وهذا متواتِرٌ عنْ أئمَّة العلْم والسُّنَّة.
قال البُخاري: لقيتُ أكثر من ألْف رجلٍ منَ العلماء بالأمصار، فما رأيتُ أَحَدًا يختلف في أن الإيمانَ قوْل وعمل، ويزيد وينقص، والأدلَّة على ذلك في كتاب الله وسنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - كثيرة؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [الفتح: 4]، وقال تعالى: ﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ﴾ [ طه: 76 ]، وقال تعالى: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22].
وقد سأل أبو ذر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان، فتلا عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾[البقرة: 177].
الفرْق بين الإيمان والإسلام:
الإسلام لغة: الانقياد، وشرعًا: إذا أطلق غير مُقترن بالإيمان، فيُراد به الدِّين كله؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ ﴾، أمَّا إذا اقتَرَنَ بالإيمان، فيُراد به الأعمال والأقوال الظاهرة، دون أمور الاعتقاد، كما في حديث سُؤال جبريل؛ قال تعالى: ﴿ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات: 14].
والإيمان لغة: التصديق، وشرعًا: إذا أطلق على الانفراد غير مُقترن بالإسلام، فيُراد به الدِّين كله اعتقادًا وقولاً وعملاً، كما بيَّنَّا مِن قبلُ، وإذا اقتَرَنَ بالإسلام فإنَّه يفسر بالاعتقادات دون الأعمال والأقوال.
والحاصلُ أنه إذا أُفرد كلٌّ منهما بالذِّكر، فإنه يُراد به الدِّين كله، فلا فرْق بينهما حينئذٍ، بل كلٌّ منهما على انفرادِه يشْمَل الدِّين كله، وإنِ اجتمع الاسمان فيفرق بينهما على ما في حديث سؤال جبريل، فيُراد بالإيمان: الاعتقادات الباطنة، ويراد بالإسلام: الأقوال والأعمال الظاهرة، ولهذا يُقال عن هذَيْن الاسمَيْن: إذا اجتمعا افتَرَقَا، وإذا افتَرَقَا اجتَمَعَا.
قال ابن حجر: والكلام هنا في مقامَيْن:
أحدهما: كونه قول وعمل، والثاني: كونه يزيد وينقص.
فأمَّا القولُ، فالمُرَاد به النُّطق بالشهادتَيْن، وأما العمل: فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح؛ ليدخل الاعتقادات والعبادات، ومراد مَن أدْخَل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى، فالسلَف قالوا: هو اعتقاد بالقلْب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك: أنَّ الأعمالَ شرْطٌ في كمالِه، ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص، والمرجِئة قالوا: هو اعتقادٌ ونطقٌ فقط، والكرامية قالوا: هو نُطق فقط، والمعتَزِلة قالوا: هو العمَل والنُّطق والاعتقاد.
والفرْق بين المعتزلة والسلَف: أن المعتزلة جعلوا الأعمال شرطًا في صحته، والسلَف جعلوها شرطًا في كماله.
وأما المقام الثاني: فذَهَب السلَف إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وأنكر ذلك أكثر المتكَلِّمين، وقالوا: متى قبل ذلك النقص كان شكًّا. اهـ.
شُعب الإيمان:
قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان بضعٌ وستون شُعبة، والحياءُ شُعبة من الإيمان))؛ رواه البخاري، وفي روايةٍ مُسلم: ((الإيمانُ بضع وستون، أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعبة من الإيمان)).
وقد حاوَلَ جَماعَة من أهْلِ العلْم حصْر هذه الشُّعَب بطريق الاجتهاد، واستقراء نُصُوص القرآن والسنَّة، ومِمَّنْ فَعَل ذلك ابنُ حبَّان، وعمر بن شاهين، والبيهقي، وابن حجر.
قال الحافظ: هذه الشُّعَب تَتَفَرَّع من أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال الجوارِح.
فأعمالُ القلْب فيه المعتَقَدات والنِّيَّات، وتشتمل على أربع وعشرين خصْلة:
الإيمان بالله، ويدخل فيه الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده، بأنه ليس كمثله شيء، واعتقاد حدوث ما دونه، والإيمان بملائكته وكُتُبه ورُسُله، والقدَر خيره وشره، والإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه المسألة في القبر، والبعث، والنشور، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار، ومحبة الله، والحب والبُغض فيه، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتقاد تعظيمه، ويدخل فيه الصلاة عليه، واتِّباع سنته، والإخلاص، ويدخل فيه ترْك الرِّياء والنِّفاق، والتوبة، والخوف، والرَّجاء، والشُّكر، والوفاء، والصبر، والرضا بالقضاء، والتوكُّل، والرحمة، والتوَاضُع، ويدخل فيه توقير الكبير ورحمة الصغير، وترْك الكبْر والعُجْب، وترْك الحسَد وترْك الحِقْد، وترْك الغَضَب.
وأعمال اللسان وتشتمل على سبع خصال:
التلفُّظ بالتوحيد، وتلاوة القرآن وتعلُّمه وتعليمه، والدعاء، والذِّكر، ويدخل فيه الاستغفار، واجتناب اللغْو.
وأعمال البدن، وتشتمل على ثمانٍ وثلاثين خصلة:
منها ما يختص بالأعيان، وهي خمس عشرة خصلة: التطهير حسًّا وحكمًا، ويدخل فيه اجتناب النجاسات، وستر العورة، والصلاة فرضًا ونفلاً، والزكاة كذلك، وفك الرقاب، والجود، ويدخل فيه إطعام الطعام، وإكرام الضيف والصيام فرضًا ونفلاً، والحج والعمرة كذلك، والطواف، والاعتكاف، والتماس ليلة القدر، والفرار بالدِّين، ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك، والوفاء بالنذر، والتحرِّي في الأَيْمان، وأداء الكفَّارات.
ومنها ما يتَعَلَّق بالاتباع، وهي ست خصال:
التعفُّف بالنِّكاح، والقيام بحُقُوق العيال، وبر الوالدَيْن، وفيه اجتناب العُقُوق، وتربية الأولاد، وصلة الرَّحِم، وطاعة السادة، والرفق بالعبيد.
ومنها ما يتعَلَّق بالعامة، وهي سبع عشرة خصلة:
القيام بالإمرة مع العدل، ومتابعة الجماعة، وطاعة أولي الأمر، والإصلاح بين الناس، ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة، والمعاوَنة على البرِّ، ويدخل فيه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، والجهاد، ومنه المرابطة، وأداء الأمانة، ومنه أداء الخمس، والقرض مع وفائه، وإكرام الجار، وحسن المعامَلة، وفيه جمع المال من حله، وإنفاق المال في حقه، ومنه ترْك التبذير والإسراف، ورد السلام، وتشميت العاطس، وكف الأذى عن الناس، واجتناب اللَّهو، وإماطة الأذى عن الطريق، فهذه تسع وستون خصلة، ويُمكن عدها تسعًا وسبعين خصلة باعتبار إفراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذكر، والله أعلم.اهـ.