أقوام تعدَّوا الخطَّ الأحمر، وتَحايلوا على الدِّين:
حواريُّو عيسي - عليه السلام -:
قالوا لعِيسي - عليه السلام -: "ادع لنا ربك ينزل علينا مائدة من السماء، نراها بأعيننا، ونتلَقَّاها بأيدينا"، ﴿ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ﴾ [المائدة: 112] لكنَّه وعَظَهم قائلاً: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 112]، لكنهم قَالُوا: ﴿ نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 113]، فدعا عيسي - عليه السلام - ربَّه في أدب عظيم: ﴿ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ﴾ [المائدة: 114 - 115] لكن بشَرْط ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 115] أنزَلَ الله - تبارك وتعالى - سورةً وحْيًا على رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وسُمِّيت بسورة المائدة.
قال بعض المفسِّرين: إنَّ عيسى - عليه السلام - أمَرَ الحواريِّين بصيام ثلاثين يومًا، فلمَّا أتَمُّوها سألوا عِيسى - عليه السلام - إنزالَ مائدة من السماء عليهم؛ لِيَأكلوا منها وتطمئِنَّ بذلك قلوبُهم أنَّ الله - تعالى - قد قَبِل صيامَهم وتكون لهم عيدًا يفْطِرون عليها يوم فِطرهم، ولكنَّ عيسى - عليه السلام - وعَظَهم في ذلك وخاف عليهم ألاَّ يقوموا بشُكْرها، فأبَوْا عليه إلاَّ أنْ يسأل لهم ذلك.
فلما ألَحُّوا عليه أخذ يتضرَّع إلى الله - تعالى - في الدعاء والسؤال أنْ يُجابوا إلى ما طَلَبوا، فاستجاب الله - عزَّ وجلَّ - دعاءه، فأنزل - سبحانه - المائدةَ من السماء والناس يَنظرون إليها تَنحدر بين غمامتين، وجعلَتْ تدنو قليلاً قَليلاً، وكلَّما دنَتْ منهم يسأل عيسى - عليه السلام - أنْ يَجعلها رحْمةً لا نقمةً، وأنْ يجعلها سلامًا وبَرَكة، فلم تزَلْ تَدْنو حتى استقرَّت بين يدي عيسى - عليه السلام - وهي مغطَّاة بمنديل.
فقام عيسى - عليه السلام - يكشف عنها وهو يقول: "بسم الله خير الرازقين" فإذا عليها من الطعام - كما ذُكِر- سبعة من الحِيتان وسبْعة أرغفة، وقيل: "كان عليها خَلٌّ ورمَّان وثمار، ولها رائحة عظيمة جدًّا، ثم أمَرَهم عيسى - عليه السلام - بالأَكْل منها، أمر - عليه السلام - الفقراء والمحتاجين والمرْضَى وأصحاب العاهات - وكانوا قريبًا من الألْف وثلاثمائة - أن يأكلوا من هذه المائدة، فأكلوا منها، فبَرَأ كلُّ من به عاهة أو آفة أو مرض مزْمِن، واستغنى الفقراء وصاروا أغنياءَ، فندم النَّاس الَّذين لم يأكلوا منها لَمَّا رأَوْا من إصلاح حال أولئك الذين أكَلوا، ثم صَعدَت المائدة وهم يَنظرون إليها حتى توارت عن أعينهم.
وقيل: إنَّ هذه المائدة كانت تنْزل كلَّ يوم مرَّةً، فيأكل الناس منها، فيأكل آخِرُهم كما يأكل أوَّلُهم، حتى قيل: إنَّه كان يأكل منها كلَّ يوم سبعةُ آلاف شخص.
ثم أمر الله - تعالى - أن يَقصرها على الفقراء دون الأغنياء، فشقَّ ذلك على كثير من الناس، وتكلَّم مُنافِقُوهم في ذلك، فرُفِعت ومُسخ الذين تكلَّموا في ذلك من المنافقين خنازير؛ استجابةً من الله للمقْتَرَح المشروط، لكنْ ما آمن إلاَّ قليل، أمَّا الذين كذَّبوا به ونافقوا فيه فمُسِخوا إلى خنازير.