عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 2  ]
قديم 2010-07-28, 7:37 AM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي

كان - رضي الله عنه - دائمًا ما يقول: كيف يَعنيني شأنُ الرعية، إذا لم يمسَّني ما مسَّها؟!

لقدْ كان بإمكان الفاروق - رضي الله عنه - أن يُؤثِر بنفسه وأهله ما في بيْت المال، ويَعيش حياةً رغيدةً بعيدةً عن هؤلاء وشأنهم، ولكن الإيمان الذي بيْن جَنْبيه، والخوْف مِن ربِّه الذي فتَّ فؤاده فتًّا، جعلَه يترك هذه الأثرَة، ويذوق آلامَ الآخرين.

بل أبعد مِن ذلك - عباد الله -: أنَّ عمر - رضي الله عنه - كان يحمل أهلَه، وأولاده زمنَ الرمادة، على شِدَّة وشَظَف العيش.

دخَل يومًا على ابنه عبدالله، فوجدَه يأكُل شرائحَ لحْم، فلامه، وقال له: ألا إنَّك ابنُ أمير المؤمنين، تأكُل لحْمًا، والناس في خَصاصة! ألاَ خُبزًا ومِلحًا، ألا خبزًا ومِلحًا.

ورأى يومًا بطيخةً في يدِ ولدٍ من أولاده، فصاح به: بخٍ بخٍ يا ابنَ أمير المؤمنين، تأكل الفاكهةَ وأمَّة محمَّد هَزْلَى!

كان - رضي الله عنه - يؤثِر بطعامه الآخرين على نفسه، أمَرَ يومًا بنَحْر جزور، وتوزيع لحمِه على أهل المدينة، وعندما جلَس عمرُ لغدائه، وجَدَ سنامَ الجذور وكبدَه على مائدته، وهما أطيبُ ما في الجَذور، فسأل: مِن أين هذا؟ فقالوا: مِن الجزور الذي ذُبِح اليوم، فأزاحه بيده، وقال: بئس الوالي أنا، إن طعمتُ طيبَها، وتركتُ للناس كراديسَها؛ يعني: عظامها، ثم أمر بمأدبته المعهودة، خبز يابس وزَيْت، فجعل يكسِر الخبز ويثرده بالزَّيت، ولم يكملْ هذه الوجبة المتواضعة؛ لأنَّه تذكر أهل بيتٍ لم يأتِهم منذ ثلاثة أيام، فأمر خادمَه بحمْل الطعام إلى ذلك البيت.
قِفْ أَيُّهَا التَّارِيخُ سَجِّلْ صَفْحَةً
غَرَّاءَ تَنْطِقُ بِالخُلُودِ الكَامِلِ حَرِّكْ بِسِيرَتِهِ الْقُلُوبَ فَقَدْ قَسَتْ
وَعَدَتْ بِقَسْوَتِهَا كَصُمِّ جَنَادِلِ

كان - رضي الله عنه - في تلك المَخْمَصة كثيرَ التضرُّع لربِّه، منكسرَ الحال، ملازمًا للصلاة، لم ينقطعْ لسانُه عن الاستغفار.

لقد فقُه الفاروق - رضي الله عنه - أنَّ هذه الصِّعابَ ليس لها كاشِف إلا مسبِّبها، فعجَّ إلى ربِّه بالدعاء، وسعَى بعد ذلك إلى إصلاح نفسه، ومحاسبتها، وإصْلاح رعيته وتذْكِيرها.

ذكر ابنُ سعْد في "الطبقات"، عن سُليمانَ بن يَسَار، قال: خطَب عمرُ الناسَ في زمن الرمادة، فقال: يا أيُّها الناس، اتَّقوا الله في أنفسِكم، وفيما غاب عنِ الناس من أمرِكم، إلى أن قال: هلمُّوا فلندعُ الله أن يصلحَ قلوبنا، وأن يرحمَنا، وأن يرفعَ عنا المَحْل، قال الراوي: فرُئي عمر - رضي الله عنه - يومئذ رافعًا يديه يدعو، والناس يدعون، حتى بكَى، وأبْكى الناس مليًّا.

قال عنه ابنُه عبدالله: سمعتُ أبي في السَّحَر يقول: اللهمَّ لا تجعلْ هلاكَ أمَّة محمَّد على يدي، وكان يقول: اللهمَّ لا تُهْلِكْنا بالسِّنين، وارْفع عنَّا البلاء.

وخرَج - رضي الله عنه - إلى المصلَّى يستسقي، ومعه النَّاس، والضَّعَفة والأطفال، فخرَج متواضعًا متضرِّعًا متخشِّعًا، فصلَّى بالناس ركعتَين، لم يدرِ الناس ما يقولُ مِن البُكاء، ثم وعَظ الناسَ وذكَّرهم، ثم ألحَّ في الدعاء، وألظَّ في المسألة، وكان مِن سؤاله: اللهمَّ عجزتْ لنا أنصارُنا، وعجزتْ عنا حَوْلُنا وقوَّتنا، وعجزتْ عنَّا أنفسُنا، ثم أخَذ بيَدِ العباس بن عبد المطَّلب، فقال: اللهمَّ إنَّا كنَّا نستسقي إليك بنبيِّنا فتسقينا، وإنَّا نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا فاسْقنا، وكان العبَّاسُ قد طال عمرُه، ورقَّ عظمُه، فجعلتْ عيناه تذرِفان، وهو يقول: اللهمَّ أنتَ الراعي فلا تُهملِ الضالَّة، ولا تَدعِ الكسيرَ بدار مضيعة، فقد صرَخ الصَّغير، ورقَّ الكبير، وارتفعتِ الشَّكْوى، وأنت تعلم السِّرَّ وأخْفَى، فأغْنِنا بغناك.

واستجاب الله الدُّعاء، وعمَّتِ الرحمة، وأرسلتِ السَّماء خيراتِها، فلم يكَد ينصَرِف الناس إلى منازلهم، حتى خاضوا الغُدران، واستبشر المسلِمون خيرًا، وعَرَفوا أنَّ المددَ الإلهي قد قرُب.

بَيْدَ أنَّ الفاروق - رضي الله عنه - بعدَ هذا الخير العميم، لم يَقفْ موقفَ المتواكِل؛ لأنَّ الأرض لن تخرجَ بركتَها إلا بعد أيَّام كثيرة، والناس حولَه يتضاوون مِن الجوع ويموتون، فسلَك كلَّ طريقة فيها إغاثةُ الناس، وما ترك وسيلةً فيها إصلاحُ الناس إلا سعَى إليها.

تَرَك أخْذ الزكاة من الناس ذلك العام، وأنْفق كلَّ ما في بيت المال من الطعام والكساء، واشترى كلَّ ما في السوق من الأكل، حتى نفد الطعام، وأصبحَ المال لا قيمةَ له بعد ذلك.

ذكر ابنُ كثير: أنَّ عمر عام الرَّمادة قد غفل عن طلب الغَوْث من أمراء المناطق، حتى أشارَ عليه بعضُ الصحابة، فقال عمر - رضي الله عنه -: الله أكبر! بلَغ البلاء مدَّته.

ثم كتَب إلى عُمَّاله في المناطِق، الغوثَ الغوثَ، كتب إلى أبي عُبيدة بالشام، وإلى عمرو بن العاص بمصر، وإلى معاويةَ بنِ أبي سُفيان بالعِراق، يستغيثهم ويستمدُّهم، فأسرع الولاةُ لنجدةِ خليفتهم، وعاصمةِ إسلامهم، فجاءتْ قوافلُ المسلمين تزحَف كالسيل، محمَّلة بالطعام والكِساء.

كتب إليه عمرو بن العاص، أتاك الغوثُ يا أميرَ المؤمنين، لأبعثنَّ إليك بعِيرٍ أولُها عندَك، وآخرُها عندي، ووصلتْ تلك الإغاثات إلى عمر - رضي الله عنه - فسُرِّي عنه، وخفَّ همُّه، وبرد غمُّه، وقسم على كل ناحية مِن نواحي المدينة أمراء، يتولَّوْن إطعامَ الناس، ومتابعةَ حاجاتهم، ثم يجتمعون عندَه في المساء؛ ليوافوه بأخبار الناس، بل كان عمر - رضي الله عنه - يُشرِف بنفسه أحيانًا على إطْعام الناس، فيقول: أطعموا هؤلاء، وزِيدوا مرقةَ أولئك.

ذكر ابن سعد: أنَّ عمر - رضي الله عنه - سأل يومًا: أحْصُوا مَن تعشَّى عندنا، فأحصَوْهم فكانوا سبعةَ آلاف، وفي ليلةٍ أخرى عشرة آلاف.

واستمرَّتِ القدور العُمرية الضَّخْمة تستعِرُ نارُها من بعد الفجْر إلى المساء، وكان عمر - رضي الله عنه - يُرسِل إلى الناس مؤنةَ شهر ممَّا يصله من الأمصار.

ثم بعد تِسعة أشهر، أخرجتِ الأرضُ خيرَها، وعمَّتْ بركتُها، وزال الضِّيق، ورُفِعتِ الكُربة، ولهجتِ الألْسن بحمد الله وشُكْره، فجعل الناس يترحَّلون من المدينة بعدَ أيام عَنَت ومشقَّة عاشوا فيها، وفقدوا فيها أحبابَهم.

وجعَل الفاروق - رضي الله عنه - يسيرُ معهم، ويودِّعهم بدمعات حارَّة، يرَى تلك الوفود التي أَوَتْ إليه جائعةً متهالِكة خائفة، ها هي الآن تعود إلى دِيارها ومساكِنها، آمنةً مطمئِنَّة، معها الزادُ والخير الكثير، فقال رجلٌ لعمر في هذا المظهر المهيب: أشهد أنَّها انحسرتْ عنك، ولستَ بابن أَمَة، فقال له عمر: ويلَك! ذلك لو كنتُ أنفقتُ عليهم مِن مالي أو مِن مال الخطَّاب، إنَّما أنفقتُ عليهم من مال الله - عزَّ وجلَّ.

وبعدُ، إخوة الإيمان:
فإنَّ النفوس بعدَ سماع هذه الأخبار، ونوادر المواقِف، لا يَسعُها إلا أن تقِفَ خاشعة، مترضيةً عن فاروق الأمَّة، عارفةً فضلَه وفضائلَه، وقدمَه، وأياديَه على أهل الإسلام، نسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يجمعنا وإيَّاكم مع هذه الصفوة الصادقة في دار كرامته، ومستقر رحمته، أقول ما قد سمِعْتُم....


فيا أيُّها الناس، لقد علَّم الفاروق - رضي الله عنه - الأمَّةَ مِن بعده دروسًا كثيرةً عام الرَّمادة:
• فعلَّم الأمَّة: استشعارَ عظمة المسؤولية لكلِّ صاحب ولاية عامَّة أو خاصَّة، تتعلَّق بمعاشِ الناس وعَيْشهم ورِزقهم، أن يتقيَ ربَّه في أمْر الناس، وأن يستشعرَ حاجاتهم، ويتابع معاناتهم، حتى يرَى الناس فِعالَه قبل كلامه، في رَفْع الشِّدَّة عنهم، وتخفيف الضُّرِّ الذي أصابَهم.

• وعلَّم عمرُ الأمَّةَ أيضًا صِدْقَ اللجوء إلى الله تعالى في المُلمَّات، وشكاية الحال إليه في الأزَمات، وأنَّ هذا هو أولُ خُطوة صحيحة تَستدفع بها الأمَّةُ الخطوبَ، وتستكشف عنها الكروب؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].

• وعلَّمتْنا مدرسةُ الفاروق أيضًا: أنَّ التخطيط السَّليم والتدبير الحَكيم مِن أنجحِ الطُّرق للخروج مِن الأزمات، وعلَّم عمرُ الأمَّة من بعده مبدأَ التضامن الإسلامي، وأن يسعَى المسلِمون في مواساةِ إخوانهم المنكوبين والمحصورين، فـ ((المسلِم أخو المسلِم))، و ((المسلِمون كالجَسد الواحد، إذا اشْتكى منه عضوٌ تَدَاعى له سائرُ الجسَد بالسَّهر والحُمَّى)).

لا تكن هذه المعاني - عباد الله - مجرَّد ألفاظ تلوكها الأفواه، وتستعذِبها القرائح، ولا رصيدَ لها في تطبيقات الواقِع.

كم يعيش المسلِمون اليومَ في مناطقَ في أفريقيا حالة تُشبِه حالةَ الرَّمادة في عهْد عُمر!
كم يذوق إخواننا في أرْض الإسراء مِن ضِيق وضَنْك، وحِصار مِن أرذل الخَلْق، وأنذل الخليقة، حتى كثُرت مناداتهم، وعَلَت تأوهاتهم، وبُحَّتْ أصواتُهم من كثرة المسألة، وبلاد المسلمين تُنفق المليارات، لا نقول: في الأمور الضروريَّة والحاجية، بل في الأمور الكماليَّة والتافِهة!!

إنَّ السعيَ في رفْع معاناة البائسين - عباد الله - لا يقتصر على المال مع أهميَّته، بل يشمل السعيَ باللِّسان، وبالقَلم، وبالجاه، والشفاعة الحَسَنة، وأضعَفُها الدُّعاء.

وفي الحديث: ((إنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمة مِن رضوان الله - عزَّ وجلَّ - ما يظنُّ أن تبلغَ ما بلغتْ، يَكتُب الله - عزَّ وجلَّ - بها رِضوانَه إلى يومِ القيامة))؛ رواه الإمام أحمد وغيره، وهو حديث صحيح.

نسأل الله - عزَّ وجلَّ - بمنِّه وكَرمه أن يجعلَنا وإيَّاكم مفاتيحَ للخير، مغاليقَ للشرِّ، وأن يجعلنا مباركين أينما كنَّا، وأن يرزقَنا العملَ بمرضاته، والاستمساكَ بطاعته.

عبادَ الله، صلُّوا على خير البريَّة.


توقيع يمامة الوادي




هل جربت يوماً اصطياد فكرة رائعة !؟
لـتـصوغـهـا فـي داخـلـك
وتـشحـنهـا بنبض قـلـبـك
وتعـطرهـا بطيب بروحك
وتسقـيـهـا بمـاء عـرقـك
حتى تنضج وتصنع منك إنساناً مبدعاً ؟